كل هذا الحديث المختلف أثر في نفسي وغير رأيي وعزيمتي، وأغراني بالبقاء، وفتح لي أبوابا من الأمل والنشاط لم أقدر قط أني سألجها في يوم من الأيام. فقد رأيتني محتكرا لتجارة الهند وبلاد العرب. ورأيتني وزيرا لملك إلا يكن عظيما الآن، فسيكون عظيما من غير شك بعد وقت قصير. ورأيتني سفيرا مقيما لقيصر عند هذا الملك وعند النجاشي، أستطيع أن أسير سياستهما فيما يرضي مصالح الروم ومرافقهم وتفوقهم السياسي على عدوهم من الفرس. وما هي إلا أن أقبل الإقامة مع أبرهة، ولو إلى حين.
وتمضي أيام، وإذا أنباء النجاشي تصل إلينا مخيفة مروعة. فلم يكد يعلم بما كان من اضطراب الجند وقتل قائده أرياط، حتى أقسم لا يستقر قبل أن يسفك دم أبرهة ويطأ أرضه. ويخلو إلي أبرهة للتشاور والتدبير! فيتفق رأينا على أن نحل الملك من قسمه بحيلة من الحيل، وفن من فنون المكر؛ فإن أفلحنا فذاك، وإلا نصبنا له الحرب وقطعنا ما بينه وبيننا من صلة. وأنى ليده أن تمتد إلينا والبحر بيننا وبينه، والسفن خالصة لنا من دونه؟ ثم يفتصد أبرهة ويضع دمه في قارورة، ويملأ جرابا من تراب اليمن، ويرسل دمه وتراب اليمن إلى الملك معتذرا إليه ما وسعه العذر، مجددا طاعته، مؤكدا وفاءه قائلا: «هذا دمي فليسفكه الملك، وهذه أرضي فليطأها الملك، تحلة من قسمه، وله علي بعد ذلك ألا أورد ولا أصدر إلا عن أمره ورأيه ورضاه!»
وقد أعجبت الملك حيلتنا هذه، فيرضى عن قائده ويقره على عمله، ونفرغ نحن لما كنا ندبر من الشئون. وكانت عظيمة حقا تلك الشئون التي كنا ندبرها. فلم نكن نطمع في أقل من أن ترد إلى بلاد اليمن يمنها القديم، وثراءها الذي بعد صوته في الآفاق، وفي أن نجعلها خالصة للنصرانية، وفي أن تبسط سلطانها على بلاد العرب كافة. وكنت أداعب في نفسي حلما لذيذا، لم يلبث أن أصبح أملا تدفعنا إليه ظروف الحياة دفعا. فقد كنت أفكر في أن أنشر سياسة قيصر وسلطانه مع دين المسيح، وفي أن أصل بين ملك قيصر في الشام وحلفاء قيصر في اليمن، وفي أن أخضع ما بين هذين القطرين من الأرض لسلطان إن لم يكن خالصا لقيصر. فهو شركة بينه وبين حليفه النجاشي؛ وهو على كل حال معين لقيصر على عدوه كسرى. ولم أكن أصارح أبرهة بهذه الأحلام والآمال، حتى اضطرتني الظروف إلى أن أصارحه بها ذات يوم، حين أقبل السفراء من عند كسرى فأنبئوا بأن الحرب قد شبت بين الفرس والروم وطلبوا إلى أبرهة أن يعين على الروم بما يملك من قوة وتأييد. هنالك صارحت صاحبي، ولم أجد مشقة في إقناعه برأيي وحمله على ما كنت أريد. ألم يكن يجمع بيننا وبينه الدين!
على أننا فرغنا قبل كل شيء لأمور اليمن، فجددنا من عماراتها المتداعية، وأقمنا سدودها المتهدمة، ونظمنا مجاري الماء فيها تنظيما حسنا، واجتهدنا في نشر الدين ما وسعنا ذلك، لا نشق على الناس ولكن نأخذهم باللين والرفق، وأقمنا كنيسة في صنعاء لم يعرف أهل هذه البلاد مثلها ضخامة وفخامة، وجلالا وجمالا وزخرفا: جلبنا لها المرمر من أطراف الأرض، ودعونا لها العمال من قسطنطينية، وحليناها بالذهب والفضة والجوهر، وحرقنا فيها من الطيب والبخور ما كان ينتشر عرفه إلى أماكن بعيدة حول صنعاء، ورتبنا لها القسس والأحبار، ورغبنا الناس في أن يختلفوا إليها ويصلوا فيها. وقدرنا أن نقيم أمثالها في أماكن مختلفة من هذه البلاد. ولكن العرب أهل وثنية ولجاج في الوثنية، كانوا يكبرون من أمر أبرهة ويعظمون سلطانه ويبتغون عنده المعروف، ولكنهم كانوا يكرهون دينه وتأبى نفوسهم الاستجابة له. وكان الذين يختلفون إلى كنيستنا قليلين مهما يكثروا، وكانوا جميعا من ضعفاء الناس وفقرائهم وأصحاب الحاجة منهم. على أننا لم نستيئس وأخذنا نهيئ أمورنا ونرغب الوفود في طاعتنا؛ حتى لقد دعا أبرهة إليه عظيما من عظماء العرب في هذا الإقليم الذي يسمونه تهامة، فأكرم مثواه وأعظم أمره، وتوجه ملكا على قومه، ورده عزيزا مكرما.
وفي ذات يوم رفع إلى أبرهة أمران ضاق بهما أشد الضيق، وخرج لهما عما قد ألف من الحلم والأناة. أصبح سدنة الكنيسة فرأوا أنفسهم أمام أمر عظيم: رأوا كنيستهم قد لطخت بالقاذورات، وألقيت فيها الجيف، وانتهكت حرمتها، فثاروا بذلك ورفعوه إلى أبرهة، وزعموا له أن هذا الإثم لا يمكن أن يجنيه إلا رجل من هؤلاء العرب الذين يأتون من تهامة، حيث يقوم لهم بيت هناك يقدسونه ويحجون إليه يسمونه الكعبة، والعرب كلها تحج إليه وتعظم أمره، وتعظم الذين يعيشون حوله من هذا الحي الذي يسمى قريشا، والذي يتجر بين بلادنا وبلاد الشام.
فلما سمع الملك ذلك غضب أشد الغضب، وأقسم ليهدمن هذا البيت وليحملن العرب على أن يحجوا إلى كنيسته بالسيف، بعد أن أعياه حملهم على ذلك بالرفق واللين. ولم يكد النهار يتقدم حتى رفعت الأنباء إلى أبرهة بأن أهل تهامة قد قتلوا ذلك الرجل الذي أرسله إليهم ملكا، فطار طائره، وثار ثائره، وأذن من فوره بالتجهز للحرب والاستعداد للرحيل، وأرسل إلى النجاشي ينبئه بذلك، ويسأله أن يمده بالجنود والفيلة. وما هي إلا أيام حتى تهيأ له جيش ضخم قوي، وحتى فصلنا عن صنعاء يملؤنا الأمل وتزدهينا الكبرياء. وكنت أتحدث إلى أبرهة بأننا سنقطع هذه الطريق على طولها في غير مشقة ولا جهد، وبأننا سنصل بين الشام واليمن، وبأني سأستقبله ضيفا في بلاد القيصر، كما استقبلني ضيفا في بلاد النجاشي. وكان جيشنا يعظم ويضخم كلما تقدمنا في الطريق بمن كان ينضم إلينا من أذواء اليمن وأقيالها.
ولكن طريقنا لم تخل مع ذلك من العقاب،
4
ولم تكن أمنا كلها، فقد نصب لنا الحرب جماعة من أقيال اليمن على رأسهم رجل يقال له ذو نفر، غيرة على وثنيتهم، وحفيظة لبيتهم ذلك، ودفاعا عن حلفائهم من قريش، ولكنا هزمناهم في غير مشقة، وأخذنا رئيسهم أسيرا. وهم الملك أن يقتله، ثم رق له وعفا عنه، واستبقاه في أسره. ومضينا أمامنا لا نلقى كيدا حتى كدنا نبلغ تهامة اليمن، وإذا حي من أحيائها قوي عظيم البأس مسلط على الأرض، متحكم في الطريق وفي القوافل التي تقطعها، يقال له خثعم، قد جمع لحربنا، وغره عدده فخيل إليه أنه سيقهرنا كما تعود أن يقهر الناس من قبل. ولكنا قهرناه في أقصر وقت وأيسر جهد؛ وأخذنا رئيسه رجلا يقال له نفيل بن حبيب أسيرا. وهم الملك أن يقتله ولكنه استعطف وغلا في الاستعطاف حتى ظفر بعفو الملك، وتقدم مع الأدلاء ليسلكوا بنا طريق هذا البيت الذي كنا نقصد إليه. ونمضي في طريقنا لا نلقى كيدا، وقد هابتنا العرب وخلت لنا الطريق، وأعظمت أمرنا إعظاما. حتى إذا دنونا من مكة، وبلغنا مدينة عظيمة هناك يقال لها الطائف؛ تقوم على مرتفع من الأرض عظيم، ومن حولها النخيل والكروم والحدائق فيها أنواع الفاكهة والثمر، كأنها مدينة من مدن الساحل الشامي قد نقلت إلى تلك الأرض المقفرة المجدبة فأقامت فيها مشرقة زاهية كأنها الابتسامة الجميلة في الوجه المظلم الكئيب، خرج إلينا هنالك أهل هذه المدينة فقدموا الطاعة وأظهروا الخضوع، وبعثوا معنا رجلا منهم يسلك بنا إلى مكة أقرب طريق. ونمضي أمامنا حتى نبلغ مكة، فينيخ الجيش ليستريح قبل أن يأخذ في الهجوم.
ويأتي سفراء القبائل إلى الملك من كل مكان يقدمون إليه طاعتهم ويعرضون عليه ثلث أموالهم، ويطلبون إليه أن يدع بيتهم هذا لا يمسه بسوء، فلا يسمع الملك منهم ولا يحفل بهم. ثم يرسل الملك طلائعه فتغير على ما حول مكة من الأرض وتستاق كل ما تجد فيه من مال. حتى إذا كان الغد أرسل الملك جماعة من أصحابه إلى مكة وكلفهم أن يسألوا عن سيدها وعظيمها؛ فإذا لقوه أنبأوه بأن الملك لا يريد قتالهم ولا حربهم، وإنما يريد أن يهدم هذا البيت، فإن خلوا بينه وبين البيت فهم آمنون، وإلا فليأذنوا بحرب تسحقهم سحقا. وأمر الملك سفراءه أن يأتوا بعظيم قريش إن أظهر الموادعة والميل إلى السلم. ويمضي السفراء ثم يعودون ومعهم رجل عظيم، وسيم وجسيم، لم أر قط أجمل منه، ولا أملأ للعين، ولا أوقع في القلب، ولا أشد مهابة وجلالا. حتى إذا بلغوا سرادق الملك دخلوا يستأذنون له. ويسأل الملك عنه فيقال له: هذا عبد المطلب سيد قريش وصاحب عيرها، أعظمها شرفا، وأعلاها مكانة وأكرمها نفسا، وأسخاها يدا، يطعم الناس في السهل ويطعم الوحوش في رءوس الجبال. وكنت عند الملك حين أدخل عليه هذا الرجل، ورأيت الملك ينظر إليه فيكبره ويعظمه، ويلقاه بالتجلة والكرامة، ويهم أن يجلسه معه على السرير، ولكنه يشفق أن تنكر الحبشة ذلك، فينزل عن سريره ويجلس مع هذا الرجل على البساط. ثم يكلف الترجمان أن يسأله حاجته. فما أشد ما عجب الملك حين فسر الترجمان له جواب سيد قريش. قال: حاجتي أن ترد إلى مائتين من الإبل أخذتها طلائعك فيما أخذت أمس من المال. قال الملك مستهزئا: لقد أعظمتك حين رأيتك، فإني لأصغر من شأنك الآن. لقد كنت أظن أنك ستحدثني في بيتك هذا الذي أريد أن أهدمه، والذي هو دينك ودين آبائك، وشرفك وشرف آبائك، فإذا أنت تحدثني في مائتين من الإبل! قال سيد قريش في صوت الهادئ الواثق المطمئن: أنا رب الإبل، فلأحدثك فيها، فأما البيت فإن له ربا سيمنعه. قال الملك: لن يمنعه مني. قال سيد قريش: فأنت وذاك. وأمر الملك أن ترد إلى الشيخ إبله، فردت إليه .
Halaman tidak diketahui