فقد تقدمت السن بكيمون بعد أن قضى في الدير ما شاء الله من الدهر، مجتهدا في طاعة الله والفقه في الدين، والانصراف عن غير ذلك من شئون الحياة. قال أشياخنا: والناس يتحدثون أن «كيمون» ضاق آخر الأمر بحياته في الدير لأنه رأى نفسه قد أصبح فتنة لرفاقه وخلطائه من الرهبان، ورأى ديره قد أصبح فتنة لأديار كثيرة كانت تقع على آماد بعيدة منه في الصحراء، وأصبح فتنة لأهل الريف الذين كانوا يقيمون على أطراف الصحراء، وفي داخل الأرض الخضراء، فقد تسامع هؤلاء جميعا بما كان الله عز وجل قد اختص به «كيمون» من الكرامة وآثره به من الفضل، وبما أجرى على يده من العجائب والأمور الخارقة؛ فقد كان لا يدعو لمريض أو ذي ضر بالشفاء إلا شفاه الله من فوره. وكانت بركته قد عمت أهل الدير ومست ما حوله من أرض الصحراء إلى أمد بعيد، فإذا أهله لا يشكون جوعا ولا ظمأ، ولا يلقون جهدا ولا عناء، وإذا ديرهم قائم في وسط جنة خضراء قد أنبت الله فيها من ألوان الشجر والزهر، ومن فنون الحب ما فيه غنى عن كل جهد ودفع لكل مشقة، وإذا الناس يحجون إلى هذا الدير في كل عام مرة أو مرات فيتبركون ويلتمسون الدعاء، ويلحون في لقاء «كيمون»: هذا يريد أن يمسه، وهذا يريد أن يلثمه، وهذا يريد أن يسمع صوته، وهذا يريد أن يملأ عينه من منظره الجميل؛ حتى ضاق الشيخ بذلك وأشفق منه على نفسه وعلى دينه. وقد أصبح «كيمون» شيخا. وما أسرع ما تتقدم السن بأبناء الأحاديث! فلما شق عليه ذلك أزمع أن يخلص منه، ويفر بدينه من إكرام المكرمين وإيثار المؤثرين، كما فر قبل ذلك من تلك المدينة التي كان الناس يفتنون فيها عن دينهم بالتقتيل والتنكيل والتمثيل.
وأصبح أهل الدير ذات يوم يفتقدون وليهم المبارك فلم يجدوه حيث تعودوا أن يروه في كل صباح، والتمسوه في كل مكان: في الدير وفي جنة الدير، وفي الصحراء من حول الدير، فلم يظفروا به ولم يجدوا له أثرا. فذهبت ظنونهم وظنون غيرهم من الناس في هذه الغيبة كل مذهب، وأولوها كل تأويل. ولكن «كيمون» نفسه لم يظن ولم يؤول، وإنما استعان الله على أن يخلص من هذا الضيق، ودعا الله أن يخفيه عن الناس حتى يبلغ مأمنه، فاستجاب الله له. ومضى في طريقه هاربا من الدير، كما مضى في طريقه هاربا من المدينة، لا يلوى على شيء حتى خرج من الصحراء المجدبة، وأمعن في أرض خصبة فيها خير وثراء كثير، فمضى فيها لا يغريه ما كان يرى من حياة الناس ونعيمهم ولم يمس قلبه ولا حسه ما كان يرى من تلك المدن العامرة التي كانت تذكره بمدينته؛ لأنها كانت تشبهها بما كان يقوم فيها من القصور الفخمة، والملاعب الواسعة الضخمة، وبما كان ينصب فيها من الأسواق التي تحمل إليها ألوان التجارة من أطراف الأرض، وبمن كان يضطرب فيها من هؤلاء الشبان المترفين، ومن هؤلاء النساء المتهالكات الداعيات باللحظ واللفظ إلى الإثم والفتون.
وكان الشيخ يمضي بين هذا كله لا منكرا له ولا راغبا في شيء منه؛ لأنه كان مشغولا بنفسه ودينه عن هذا كله. حتى إذا قطع هذه الأرض من حد إلى حد، وقف عند قرية فقيرة في طرف من أطرافها تمس الخصب من ناحية، وتمس الصحراء من ناحية أخرى. أقام «كيمون» في هذه القرية وقد أعجبه فقرها وشظف أهلها وأعجبته هذه الصحراء التي كانت تمتد أمامه إلى غير حد. وكان «كيمون» كلفا بالصحراء لا يستطيع أن يسلوها؛ لأنه لا يستطيع أن ينسى أنه وجد فيها الهدى، وتبين فيها وجه الصواب. فكان ينفق أيام الأسبوع أجيرا لأهل القرية يعمل فيما يحتاجون إلى إقامته من البناء. حتى إذا كان يوم الأحد خرج مع الصبح فأبعد في الصحراء حتى تنقطع الصلة بينه وبين الناس، ثم ينفق نهاره كله في ذكر الله ويعود إلى القرية مع الليل. وكان «كيمون» رحيما للبائسين رفيقا بأهل الضر، فكان إذا مر به البائس أو المحروب أو المريض رق له قلبه ودعا له في نفسه، فما أسرع ما يزول البؤس ويكشف الضر ويرفع المرض؛ وكان الناس ينكرون ذلك ويعجبون له. فلما كثر ذلك واتصل وعرفه الناس أحبوا هذا البناء وكلفوا به، ثم استحال حبهم وكلفهم إلى شيء يشبه الفتنة. وأحس «كيمون» أنه صائر إلى مثل ما صار إليه في الدير، فارتحل عن هذه القرية تحت الليل، وافتقده الناس من الغد فلم يجدوه. وكذلك أخذ الشيخ ينتقل من قرية إلى قرية، ويرحل من مكان إلى مكان، حريصا على أن يلازم الصحراء ليقضي فيها الأحد من كل أسبوع، يقيم في القرية ما يجهله الناس، ويفر من القرية حين يحس أنهم قد عرفوه. حتى إذا كان في قرية من قرى الشام في آخر العمران وأول البادية عرفه رجل من أهلها كأنه عربي كان يسمى صالحا: عرفه وعرف تستره وتنكره للناس، فلزمه عن بعد. وخرج «كيمون» في يوم من أيام الأحد فأمعن في الصحراء كعادته وصالح يتبعه عن بعد. حتى إذا انتهى إلى مكان من الفلاة، قام يصلي وصالح يلحظه. وإنه لفي صلاته وإذا حية عظيمة ذات رءوس سبعة قد أقبلت تسعى إليه، فاغرة أفواهها ولها فحيح مزعج مخيف. فلم يحفل بها كيمون، ولكنه دعا الله عليها فأماتها الله في مكانها. وجزع صالح حين رآها تسعى إليه فصاح: إياك والحية؛ ومضى الشيخ في صلاته حتى أتمها. ثم أقبل على صالح يسأله عن أمره. قال صالح: شهد الله ما أحببت أحدا ولا شيئا حبي لك، وما أردت إلا أن ألزمك وأتعلم منك، فأذن لي في ذلك.
قال «كيمون»: لست أرى بذلك بأسا، ولكني أشفق أن تشق عشرتي عليك، فدونك ما أحببت إن قدرت على صحبتي. وعادوا إلى القرية في المساء. فلم يقم فيها «كيمون» أياما حتى عرف أهلها منه ما عرف أهل القرى التي أقام بها من قبل. وجاءه رجل من أهل القرية فقال: إني أريد أن أصلح بعض البناء في بيتي، فهل لك في أن تنظر في هذا البيت لأشارطك على ما أريد؟ فلما انتهى معه إلى الدار أدخله في حجرة وأخذ يتحدث إليه عما يريد تغييره. ثم نظر «كيمون» فإذا الرجل يهوي إلى الأرض فيرفع ثوبا كان مبسوطا وإذا صبي ضرير سيئ الحال. فلما رآه «كيمون» رق له ودعا الله، فنهض الصبي وليس به بأس. واستيقن البناء أن أمره قد افتضح، فقال لصاحبه صالح: لا مقام لي بعد اليوم في هذه القرية، إني ماض في الصحراء، فإن شئت فاتبعني وإن شئت فأقم. ولم يدركهما صبح غد إلا وقد انقطعت الصلة بينهما وبين الحواضر. ولكن وحدتهما لم تطل، فما أكثر القوافل التي تتردد بين الشام وبلاد العرب آخذة في الصحراء كل طريق! مرت بهما قافلة من هذه القوافل، فعدت عليهما واتخذتهما بضاعة، حتى إذا عادت إلى نجران من أرض اليمن باعتهما لرجلين من أشراف المدينة. فأما صالح فقد نسيه التاريخ، وأكبر الظن أنه ذهب مع الذاهبين في تلك الفتنة المنكرة، التي أظلت أهل نجران بعد ذلك بأعوام. وأما «كيمون» فقد أكرم سيده مثواه، وأفرد له حجرة في داره. فكان يعمل لمولاه بياض النهار، ويقوم للصلاة أكثر الليل. ولاحظ سيده مرة ومرة أن حجرة هذا العبد مضيئة في الليل من غير مصباح. فأنكر ذلك أول الأمر، ولكنه استيقنه بعد طول الملاحظة. فلما أصبح دعا إليه «كيمون» وسأله عن ذلك، فلم يجبه بشيء. فسأله عما يصنع في حجرته. قال: لا أصنع شيئا إنما أصلي وأذكر الله.
قال: فحدثني عن دينك وعن إلهك هذا الذي تعبده؛ فإني لا أراك تعكف على نخلتنا هذه الطويلة التي نعكف عليها، ولا أراك تتقدم إليها كم نفعل بالعبادة والتكريم. قال: وما نخلتكم هذه الطويلة؟ وأين تقع من العبادة والتكريم؟! وإنما هي نخلة كغيرها من النخل، تختلف عليها الأحداث والخطوب، ولا تملك لنفسها ولا لغيرها نفعا ولا ضرا، ولو دعوت الله عليها لأراكم فيها ما تكرهون. قال: فافعل! فإنك إن تبلغ ما تريد، دخلنا جميعا في دينك. هنالك دعا كيمون، وإذا ريح عاصفة تقبل فتقتلع النخلة اقتلاعا، وتجتثها من أصلها اجتثاثا. هنالك آمن السيد بدين العبد، وأقبل أهل نجران على الشيخ يسألونه ويتعلمون منه. ولم ينقض النهار حتى كان «كيمون» قد هدى المدينة كلها إلى دين المسيح. وكذلك استقرت النصرانية في بلاد العرب.
وهم أهل المدينة أن يكرموا «كيمون» ويكبروه، ويتخذوه لهم سيدا وإماما، ولكنه كره ذلك ونفر منه، وفر بدينه من المدينة كما فر به من الدير، وكما فر به من القرى. فخرج مهاجرا حتى بعد عن العمران وابتنى لنفسه في الصحراء خيمة أقام فيها ما شاء الله أن يقيم، منقطعا للعبادة والطاعة، عاكفا على الدين والنظر في الإنجيل. والناس يقدمون عليه من نجران ومن حولها، فيعلمهم ويبصرهم في دينهم ثم يصرفهم عنه في رفق حازم، لا يرضى منهم لزوما له، ولا يقبل ما كانوا يحملون إليه من ضروب الهدايا.
وعظم أمر المسيحية في نجران، حتى لم يبق من أهلها الوثنيين رجل ولا امرأة ولا غلام ولا فتاة إلا دخل في الدين الجديد، واجتهد فيما كان يأخذه به من عبادة وتقرب إلى الله، وحتى ضاق بذلك عدد يسير من اليهود كان مستقرا في هذه المدينة، يعمل فريق منه في التجارة وفريق آخر في الصناعة. فأخذ هؤلاء اليهود يجادلون نصارى نجران في دينهم ويشددون عليهم النكير، وينالون شيخهم ومعلمهم بألسنة حداد، حتى اغتاظ لذلك النصارى فغضبوا لدينهم. وكان بين فريق منهم وبين اليهود خصام عظم شره بعض الشيء، وارتفع أمره إلى ملك اليمن في صنعاء، وهو الذي كان يعرف بذي نواس.
وكان ذو نواس هذا قد نهض بملك آبائه من حمير، بعد فتنة طويلة ملحة، فجد في جمع الكلمة وتوحيد الرأي، وكان قد ورث يهودية أبيه تبع، فحمل الناس عليها حملا، وأحيا سنتها، وأنفق في ذلك نشاطا عظيما، وأقام حكم التوراة بين أهل المدن وبين القبائل في السهل والجبل. ثم عاوده حلم أخيه حسان، فأخذ يفكر في أن يتهيأ للخروج من اليمن بيهوديته لينشرها في الآفاق، ويفرضها على أهل الشرق والغرب ولم يكن في قصره حبران كاللذين كانا في قصر أخيه، فلم يرده أحد عما كان قد هم به وتهيأ له. وإنه لفي ذلك، وإذا يهودي من أهل نجران أقبل مسرعا مروعا حتى دخل صنعاء، وانتهى إلى القصر، واستأذن على الملك شاكيا باكيا مستغيثا لليهود، مستنجدا للتوراة. فلما أذن له ومثل بين يدي ذي نواس، زعم له أن رجلا من الروم أقبل في قافلة من القوافل فأفسد نجران وما حولها، وحمل المشركين من العرب والأعراب على دين المسيح، وأن هؤلاء النصارى قد اعتزوا على اليهود وعلوا عليهم، ثم بغوا وطغوا، وأسرفوا في البغي والطغيان، حتى أهانوا التوراة ونالوا من ذاد عنها بالسوء، وحتى قتلوا من اليهود نفرا، وأخافوا من بقي منهم في المدينة.
وقد قدمت عليك أيها الملك فزعا مستصرخا، فإما نصرتنا، وإما حولتنا عن هذه المدينة، التي لم يبق لنا فيها مقام.
قال الملك وقد أخذ منه الغضب وملكه الغيظ: أفتراني آذن لغير اليهودية من الدين في أن يستقر ببلاد العرب وأنا عظيم حمير، ووارث تبع، وذو صنعاء؟! ثم أذن في الجيش بالرحيل. وما هي إلا أيام حتى كانت نجران قد أحيط بها. ودعا الملك إليه جماعة من قواده وعظماء جنده، فأمرهم أن يجمعوا له أشراف المدينة وأهل الرأي والمكانة فيها. فلما حشدوا له حشدا خيرهم بين اليهودية والموت، ولم يدع لهم مخرجا من هذين الأمرين، ولم يمهلهم ليفكروا أو ليدبروا أمرهم بينهم. وما كانوا في حاجة إلى التفكير، وما كانوا في حاجة إلى التروية؛ فقد ملكت النصرانية عليهم قلوبهم وعقولهم واختلطت بدمائهم. فما أسرع ما أجابوا: أيها الملك، إذا لم يكن بد من الاختيار فإنا نختار الموت. فلما رأى الملك منهم ذلك أمر منادين أن يؤذنوا في المدينة: ألا إن الملك قد خير أشرافكم بين اليهودية والموت، فآثروا أن يموتوا، فأيكم اختار اليهودية وأشفق من الموت فله أن ينحاز إلى الجيش. وطال نداء المنادين وتأذين المؤذنين فلم ينحز إلى الجيش أحد. هنالك أمر ذو نواس فاحتفرت الأخاديد،
Halaman tidak diketahui