فمعذرة الإله لذي رعين
قال الملك: لا بأس عليك، فقد نصحت وبررت وبرئت ذمتك. فليتني قبلت نصحك واستمعت لدعائك! قال ذو رعين: وليت أخاك قبل نصح الحبرين. وأصبح القصر ذات يوم فإذا عمرو ملقى على الأرض مضرجا بدمائه، قد أغمد في صدره ذلك النصل الذي أغمده في صدر أخيه، هناك تفرق أمر حمير وانتقض سلطانها، وعادت إلى شر ما عرفت في قديم الزمان من الفساد والاضطراب.
الفصل الثامن
الطاغية
وكان عمرو قد أصهر إلى قيل من أقيال اليمن يقال له ذو الشناتر، فظ غليظ القلب، جافي الطبع، سيئ الخلق مدخول الضمير. على أن خصاله هذه لم تكد تبدو منه للناس حين كان قيلا من الأقيال لا ينبسط سلطانه إلا على المخلاف الذي كان يعيش فيه، فقد كان ماهرا عظيم المهارة، مداورا شديد المداورة، يلقى الرجل فيخدعه ويخيل إليه أنه أكرم الناس وأصدق الناس، وأرحم الناس، وأوفاهم وأشدهم استقامة واعتدال مزاج. لذلك انخدع فيه أقرانه من الأقيال والأذواء، وحسن فيه رأي تبع حتى قدمه وعظمه واختار ابنته تماضر زوجا لابنه عمرو. وكانت تماضر بارعة الجمال، ذكية القلب، رضية النفس، شديدة الحنان أنكرت في زوجها الغدر، ولكنها لم تجرؤ على أن تباديه بهذا الإنكار، ولو قد فعلت لأصابها شر عظيم. فلما خضب زوجها يده بدم أخيه نفرت منه وازورت عنه، ولكنها على ذلك أظهرت طاعة وإذعانا. حتى إذا سلطت على عمرو شياطين الانتقام فأخذ منه الفزع والجزع وألح عليه البؤس واليأس، ثابت إلى تماضر رقة قلبها ورضا نفسها وميلها إلى الحنان، فلزمت زوجها ورفقت به، وآست زوجها وعطفت عليه. حتى إذا حل به الموت كانت وحدها التي سكبت عليه الدمع وذاقت لموته الحزن والغم.
وكان لها صبي لم يبلغ الرابعة، وكان لزوجها أخ لم يبلغ السابعة، فجمعت أخا زوجها إلى ابنها، وقامت على تربية الطفلين، فمنحتهما من الحب والحنان ما كان يملأ قلبها الرحب الرقيق، ووقفت عليهما من البر والرفق والعطف ما تمنحه الأم أبناءها، وما تقدمه الزوج إلى زوجها. ولو قد خيرت في ذلك الوقت لما تمنت إلا أن تترك في ناحية من نواحي القصر أو تنحاز إلى مخلاف من مخاليف اليمن بعيد عن صنعاء، ومعها هذان الصبيان، تسعد بهما ويسعدان بعطفها وبرها. ولم تكن تفكر لنفسها ولا لأحد الصبيين في ملك ولا وراثة، إنما كان همها أن تنفق نشاطها كله في العناية بهذين الطفلين، وأن تجد جزاءها على ذلك في هذه النظرات الحلوة التي كانت ترتفع إليها من أعين هذين الصبيين فتملأ قلبها غبطة وحبورا، وفي هذه الأصوات العذبة التي كانت تقع في أذنها موقع الموسيقى وتصيب من قلبها مواقع الرضا والابتهاج. ولكن أباها فكر في الملك لها ولابنها في ظاهر الأمر، وفكر فيه لنفسه في أقصى ضميره ودخيلة قلبه. وما هي إلا أن أعلن أن حماية الأسرة المالكة قد صارت إليه، وأنه ناهض بها على أحسن ما ينهض الأوصياء بأمر الذين يقومون عليهم من القاصرين. وأظهر ذو الشناتر أول أمره سيرة حسنة ونهجا صالحا في الملك. ولكن تفرق حمير، وانفصال أطراف اليمن عن صنعاء، واستبداد الأقيال والأذواء بما كان في أيديهم من المخاليف والقصور، وطموح العظماء بين هؤلاء الأقيال والأذواء إلى سعة الملك وبسط السلطان، كل ذلك أغراه بالشدة ودفعه إلى البأس.
فما أسرع ما قبل الإغراء واندفع إلى الطغيان، وإذا هو يصطفي لنفسه من الجند والقادة قوما يؤثرهم بالمودة، ويختصهم بالمعروف، ويسبغ عليهم النعمة ويجزل لهم العطاء، ثم يستعينهم على غيرهم من الجند والقادة. وما يزال يغري ويغوي، ويمكر ويكيد، حتى تخلص له صنعاء وما حولها من الأرض، ثم إذا هو يضرب بمن أطاعه من عصاه، ويبعث الهيبة والخوف كما يبعث الرغبة والرجاء، حتى يعظم أمره، ويظهر أشراف حمير له الطاعة إشفاقا منه أو أملا فيه. وأنفق ذو الشناتر أعواما على هذا النحو رفيقا شديد الرفق بمن رجا منه الخير وانتظر منه النفع، عنيفا شديد العنف على من يئس من نصحه ولم يتوسم فيه خيرا ولا نفعا. حتى إذا دانت له اليمن كلها، وآمن له العظماء والأشراف، ولم يبق له بينهم منازع أو مدافع، أظهر ما كان قد أخفى من أمره، وأعلن ما كان قد كتم من سره، فاغتصب الملك لنفسه خالصا من دون ابنته وسبطه، ومن دون أهل البيت من أبناء تبع وذويه. وألقى بتماضر والصبيين في قصر بعيد هو بالسجن أشبه منه بالقصر، وأقام عليهم الحراس والرقباء يعدون عليهم ما يقولون وما يعملون، ويضيقون عليهم فيما كان ينبغي أن يتسع لهم من سبل الحياة.
وفرغ ذو الشناتر بعد ذلك للأشراف والعظماء، فأعمل فيهم مكره وكيده، ثم سلط عليهم بطشه وبأسه، وأخذ يطغى عليهم ويسيء السيرة فيهم؛ فإن أذعنوا لطغيانه واستكانوا لسوء سيرته أمعن في الطغيان وأسرف في سوء السيرة، وإن أظهروا نبوا أو هموا بإباء الضيم، بطش بهم بطشا عنيفا لا يبقي ولا يذر. وما هو إلا عام وبعض عام حتى كان ذو الشناتر قد أراح نفسه من سادة حمير وذوي المكانة والسن فيها. ثم نظر فلم ير لنفسه قرينا ولا ضريبا، فازداد لنفسه إكبارا وبها إعجابا، وازداد لحمير إذلالا وعليها تسلطا وتجبرا. وأقبل على اللذات بمقدار ما كان يعرض عنها، وتهالك عليها بمقدار ما كان يظهر النفور منها. وما أسرع ما تجاوز في ذلك كل حد، وخرج على كل سنة؛ وأسرف في الأعراض يعتدي عليها، وفي الحرمات ينتهكها، وفي الأموال يستصفيها ويؤثر نفسه بخيارها حتى خافت حمير أشد الخوف، وضاقت به أشد الضيق، وتمنت له أشد النكر، وأظهرت له أشد الحب.
فلما طال ذلك على حمير لم تزدد له إلا خوفا، ولم تضمر منه إلا إشفاقا وذعرا. ولكن الشباب من أبناء السادة والقادة عجزوا عن ضبط العواطف والأهواء، وكرهوا عيشة الذل والخضوع، فجمجموا وغمغموا أول الأمر ثم انطلقت ألسنتهم بعد ذلك بالنكير واللوم، ثم سعى بعضهم إلى بعض وأخذوا يمكرون ويدبرون. ولكن الطاغية كان أشد منهم مكرا، وأنفذ منهم أمرا، وأحسن منهم تدبيرا؛ فما هي إلا أن يستهوي فريقا منهم بالمال، ويغوي فريقا آخرين بالوعد وإظهار المودة، حتى إذا ظفر من بعضهم بالطاعة والهوى استعانهم على من لم يظفر به، حتى استقام له أمره، وإذا هو ينتقم لنفسه من هؤلاء الشباب بما يستطيع أن ينتقم به من ضروب الكيد وألوان الإذلال.
وكان كلما تقدمت به السن واستوثق له الأمر وأسرع الفساد في خلقه وطبعه ومزاجه، فذاق من اللذات ما يباح، وذاق منها ما يحظر، وجرب من اللذات ما يعرف وجرب منها ما ينكر، وأصبح قصره بيئة للشر والإثم لم تعرف مثلها صنعاء فيما مضى من الدهر. وأفاق ذو الشناتر من سكره ذات يوم، فخطر له على غير انتظار ولا تفكير ذكر ابنته تماضر وابنها عمير وأخى زوجها زرعة، وكان قد فارقهم منذ أعوام طوال حتى نسي أمرهم أو كاد ينساه. فلما خطر له ذكرهم في هذا اليوم أنكرهم، ثم هابهم، ثم اشتد خوفه منهم فاشتد مكره بهم وكيده لهم. ولم يحتج إلى تدبير طويل، حتى استقر رأيه على أن يخلص منهم ويزيلهم من طريقه. فأقدم، ويا شر ما أقدم! وعزم، ويا سوء ما عزم! ثم أنفذ ويا نكر ما أنفذ! أمر أن تقتل ابنته وسبطه خنقا حيث هما في القصر، وأن يحمل إليه ابن تبع الشاب. وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى أنفذ أمر الملك فرأت تماضر ابنها يصرع بين يديها، ورأى زرعة ابن أخيه وأمه الثانية يقتلان بمرأى منه، وانتظر أن يسعى إليه الموت، ولكن الموت أعرض عنه، ولم يسع إليه إلا القيد والغل!
Halaman tidak diketahui