وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها، يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء. أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة، أقبل عليها إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح، فردت عليهن تحيتهن ردا فاترا؛ ثم جلست وجلسن، وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل، وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكنة واجمة، وربما انحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئا. والإماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن، وثقل عليهن ما كن يجدن من ألم، وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع، ورغبة في الكلام، وميل إلى تعزية مولاتهن، اجترأت «ناصعة» وكانت أشجعهن قلبا، وأطولهن لسانا - لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء - فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد. فقد كنا نراك محزونة كئيبة، ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضا، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على تسليتك وتلهيتك بالحديث حينا، وبالغناء حينا آخر؛ تقص عليك كل واحدة منا ما حفظت من أخبار بلادها، وتغنيك كل واحدة منا بما تعلمت من الغناء في رطانتها الأعجمية؛ وكذلك كنت تسمعين أقاصيص سورية، وأخرى حبشية وأخرى يونانية، وكنت تسمعين أغاني في لغات أجنبية قليلا ما تعجبك، ولكنها كانت ترسم على ثغرك الابتسام في أكثر الأحيان. أما اليوم فلم نر منك حزنا قاتما، ولم نسمع صوتك العذب، ولم يرعنا إلا هذه الدموع التي تسفحينها في صمت أليم! تكلمي يا مولاتي! أبيني! ماذا تجدين! ماذا أحزنك اليوم؟ تكلمي وأحسني ظنك بنا؛ فقد نستطيع أن نعينك على الحزن كما كنا نستطيع أن نبعث في قلبك السرور. نحن إماء، ولكننا نساء نجد الحزن كما تجدينه، ونحس اللوعة كما تحسينها! ولعل حبنا للبكاء أشد من حبنا للضحك! ولعل حرصنا على الحزن أشد من رغبتنا في السرور! ولعلنا إن شاركناك في الحزن والألم جارينا طبائعنا، وأرسلنا نفوسنا على سجاياها. فليس في حياتنا وإن كنت لنا مكرمة ما يسر أو يرضي. وأي شيء يسر أو يرضي في حياة الأمة الغريبة التي لا تملك نفسها، ولا تحس إلا ذل الرق، ولا تستطيع أن ترضى حقا، أو أن تسخط حقا، إلا إذا خلت إلى نفسها. وأنى لها أن تخلو إلى نفسها؛ تكلمي يا سيدتي! ماذا يسوءك؟ وماذا يغشي وجهك بهذا الغشاء الحزين؟
قالت «ناصعة» ذلك وانتظرت أن تجيبها سمراء، ولكنها لم تظفر بجواب، وإنما رأت دموعا تنحدر ثم تنهمر، ثم تستحيل إلى زفرات حارة ونحيب غير منقطع.
وهنا محا الحزن ما بين السيدة وإمائها من فروق، فأسرعن إليها يهدئنها ويرفقن بها: هذه تقبلها، وهذه تسمح دموعها، وهذه تمر يدها على رأسها، وهن جميعا يبكين لها ويبكين لأنفسهن. وقد هدأت سمراء بعض الشيء، وسكنت نفسها الثائرة إلى هؤلاء الإماء الرفيقات، فابتسمت لهن في حزن، وشكرت لهن ما أظهرن لها من مودة وعطف؛ وطلبت إليهن العودة إلى ما كن فيه من عمل، وأخذت هي مغزلها وجعلت تديره في يدها. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن عادت إلى الكلام، فقالت وهي تتكلف الابتسام وتتصنع الضحك: ليس يغني عنك الصمت يا مولاتي؛ فإنا نعلم ما تسرين كما نعلم ما تعلنين. ولولا خوفنا منك وإكبارنا إياك لقصصنا عليك القصة التي تحزنك وتجري دموعك الحارة على خدك النقي؛ ولكن أنى لنا أن نبلغ منك هذه المكانة، وإنما أنت سيدة ونحن إماء!
قالت سمراء: كفي عن هذا الحديث يا ناصعة! فقد أنسيت اليوم أن بيني وبينكن فرق ما بين السيدة وإمائها، ولست أرى منكن الآن إلا نساء تعسات مثلي؛ إنما نحن أخوات في الشقاء والبؤس؛ وما ينفعني أنني حرة وأنا مثلكن مقيمة على الضيم، محتملة للذل، مذعنة لصروف القضاء، لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، ولا أستطيع أن أبرح هذه الدار وإلى أين أبرحها ! لقد ذهبت غارة بني أسد بأبي وأخي، وأصبحت أمي وأخواتي إماء مثلكن، لا أعرف من أمرهن شيئا، ولم ينهض فتيان بني عامر وكماتهم للثأر! ليت شعري ماذا يصنع أبو براء بأسنته! ما له لا يلاعبها! لقد ذهب الموت بابني، وأصبحت أسيرة في يد عبد المطلب، أسيرة لا كالأسرى؛ يجفوني ولا أستطيع له بغضا ولا قلى كما يفعل الأسرى، وإنما أحبه ولا أجد عن داره منصرفا. ها هو ذا قد عاد من رحلته إلى اليمن منذ ثلاث. فلما بلغ مكة أسرع إلى هالة بنت وهيب، فقضى عندها أول لياليه وأول أيامه؛ لأنها أحدث زوجاته به عهدا. ثم أصبح فانتقل إلى نتيلة فأقام عندها يوما وليلة. ثم أصبح فانتقل إلى فاطمة فأقام عندها يوما وليلة. وما أرى إلا أنه سيقبل بعد حين فيلم بهذه الدار إلمامة قصيرة، ثم يسرع إلى هالة، فما أشد شوقه إليها! وقد حدثت أنه أقبل من اليمن كأحسن ما يكون الرجال سمة، وأبرع ما يكونون جمالا. وحدثت أن هالة أنكرته حين رأته؛ فقد ودعنا أبيض الرأس وعاد فاحم الشعر كأنه لم يتجاوز الثلاثين.
1
وقد أنكرته من الغد قريش كلها لما رأت من سواد لمته. ولكنه أزال عجب قريش حين أظهر لها هذا الخضاب الذي حمله من اليمن، والذي يرد الشيب شبابا، والذي أسرعت قريش إليه فاشترت منه، واختضب به شيبها فإذا أهل مكة كلهم شباب. كل ذلك ولم أر عبد المطلب، ولم أحس منه ذكرا لي وحنينا إلي. وماذا يصنع بي؟ ليس لي شباب هالة، ولا جمال نتيلة، ولا ولد فاطمة! وإنما أنا عجوز فانية، يتيمة وحيدة، ليس لها أب ولا أم ولا ولد. أنا هذا الحمل الثقيل الذي يضيق به صاحبه، ولكنه يأبى أن يلقيه ويتخفف منه مخافة أن يصفه الناس بالضعف أو القصور.
قالت ذلك وأغرقت في بكاء طويل شاركها فيه إماؤها الثلاث. ولكن «ناصعة» لم تلبث أن قالت: أهذا كل ما تعلمين من أمر زوجك يا سيدتي! إنك إذا لتجهلين كل شيء، ولا تعلمين إلا أقل أمره خطرا. وإن عندي من أمر سيدنا ما لو قصصته عليك لأرضاك، ولخفف لوعة الحزن هذه التي تحرق فؤادك الكئيب. لن ترى زوجك اليوم يا مولاتي فهو عنك في شغل. لقد كان راضيا مسرورا حين كان يرى نساءه ينكرن سواد لمته ويعجبن بشبابه الجديد، وحين كانت قريش تستبق إليه تشتري منه هذا الخضاب بما أحب من مال. ولكنه محزون منذ أمس، مغرق في حزن لا قرارة له، فهو خليق بالرثاء. إنك تحبينه يا سيدتي وستنسين إعراضه عنك وسترثين له، وإني أخشى أن تخفي إليه حين تعرفين نبأه. قالت سمراء في شيء من الجزع بدأ هادئا، ولكنه لم يلبث أن اشتد قليلا قليلا حتى بلغ أقصاه: ماذا تقولين؟ وبم تتحدثين؟ هو محزون؟ هو خليق بالرثاء! لماذا؟ أبيني متى علمت بذلك؟ كيف أخفيته علي؟ ما الذي يحزنه؟ ما الذي يسوءه؟ ما الذي يجعله أهلا للرثاء؟ ما الذي يضطرني إلى أن أخف إليه لأعزيه وأواسيه؟ قولي، أسرعي، لا تخفي علي شيئا.
قالت ناصعة: مهلا يا سيدتي! ارفقي بنفسك ولا تذهبي بها في الخيال كل مذهب! لا بأس عليه في نفسه ولا في ماله، ولكنه يمتحن منذ أمس في بنيه. هوني عليك! إن في هذه المحنة لعزاء لك عن فقد حارثك العزيز. أتذكرين يوم احتفر زمزم فنذر لئن أوتي من الولد عشرة ذكورا ... قالت سمراء: يراهم ليضحين بواحد. يا بؤس هذا اليوم! فقد عرفت هذا النذر فكان مصدر شقائي كله، عرفت أنه سيستكثر من النساء، ورأيت مدية التضحية ممدودة إلى عنق قد يكون عنق ابني العزيز. منذ ذلك اليوم كرهت النساء جميعا؛ لأني رأيت في كل واحدة منهن ضرة لي. ومنذ ذلك اليوم رأيت شبح الموت مقيما بهذا البيت ما أقام فيه ابني، مفارقا لهذا البيت ما فارقه ابني. ومنذ ذلك اليوم لم أر ابني في يقظة ولا في نوم إلا رأيت الموت ظلا. أتمي حديثك يا ناصعة.
قالت الفتاة: لقد ذكر زوجك أمس وهو يتحدث إلى فاطمة نذره هذا، وذكر أن أبناءه الذكور قد بلغوا عشرة أحياء يراهم بمولد طفله حمزة، فأقسم ليوفين نذره، وليضحين بأحد أبنائه، وليجعلنهم تسعة منذ اليوم، حتى تتمهم له هالة أو نتيلة أو غيرها عشرة أو تزيد بهم على العشرة، ولم يكد يعقد هذه اليمين حتى جزعت فاطمة وشاركها بناتها في الجزع. أشفقت على الزبير وأبي طالب وعبد الله وغيرهم من بنيها. وبلغ الخبر نتيلة فخافت على العباس. وبلغ الخبر هالة فجزعت على حمزة. وثارت لكل امرأة قبيلتها، وألح الناس على الشيخ: تأبى كل قبيلة أن تكون التضحية منها. ومضى الشيخ في يمينه، فجمع إليه بنيه وأنبأهم بنذره، فكلهم أقره، وكلهم أطاعه، وكلهم ألح عليه ليوفين بالنذر، وليقدمن التضحية. وليس لقريش منذ أمس حديث إلا هذا النبأ، هم يتناقلونه ويكبرونه وينكرونه، وقليل منهم من يقر الشيخ على هذا العزم الفظيع.
ثم قالت الفتاة: ثم أقبل الشيخ ببنيه إلى الكعبة مع الصبح، فأجال فيهم قداحه، فخرج القدح على أحب بنيه إليه وآثرهم عنده. قالت سمراء وهي مضطربة، وقد سالت من عينها دمعتان محرقتان: خرج القدح على عبد الله؟ قالت الفتاة: نعم! فأخذ الشيخ بيد ابنه يقوده إلى المذبح وفي يده المدية. ولكن بناته جميعا وأمهن قمن دون الفتى صائحات يستصرخن بني مخزوم، ويستصرخن قريشا كلها، ويمنعن الفتى بحياتهن. وأقبلت إحداهن إلى الشيخ ضارعة ثائرة معا فقالت: إذا كان قلبك قد استحال إلى صخر، فلا ترق لابنك الشاب، ولا لأمه الشيخة، ولا لأخواته البائسات، وإذا كانت شريعة قريش قد قست وجفت وغلظت، حتى جعلت للآباء على أبنائهم حق الحياة والموت كأنهم الرقيق أو الحيوان، فدعنا نحتكم في هذا الفتى إلى رب هذا البيت؛ فهو أوسع منك رحمة وأجدر منك أن يضن بهذا الشاب على الضياع، وأن يربأ بهذا الدم الزكي أن يراق. لنحتكم إلى رب هذا البيت في أمر هذا الفتى. لنقرع بينه وبين هذه الإبل الكثيرة التي تسميها في الحرم، ولنبلغن من ذلك ما يرضي رب هذا البيت.
Halaman tidak diketahui