قال الفتى: «حدثني بأنه فرد من جماعة تلتمس الحق وتبحث عن الهدى، وبأن هذه الجماعة منتشرة في بلاد الروم، يتعارف أفرادها فيما بينهم بعلامات لهم، لا يعرفها أحد غيرهم. فإذا تحدث بعضهم إلى بعض من قريب أو بعيد تحدثوا بالرموز والإشارات، فلم يظهر أحد من أمرهم على شيء. وحدثني بأن هذه الجماعة قديمة العهد طويلة العمر، قد مضت عليها القرون، يوصي كل جيل منها إلى الجيل الذي يليه بالمضي في التماس الحق والبحث عن الهدى، يجدون في ذلك ما أتاحت لهم قوتهم وحيلتهم أن يجدوا، يتفرقون في الأرض في ملك قيصر، وفي ملك كسرى، وفي أقطار لم يبلغها ملك قيصر ولا ملك كسرى، لا يبالون ما يلقون في ذلك من جهد ولا ما يحتملون فيه من عناء، حتى إذا ظفر أحدهم بشيء من العلم أو بما يراه الحق أو قريبا من الحق، احتال حتى يبلغه أصحابه، وهم على ذلك يتواصلون ويتعاونون ويستكشفون من العلم ما يستطيعون. ولكنهم علموا فيما علموا منذ الزمان الأول، أن لهذه الديانات التي يدين الناس بها في أقطار الأرض غاية تنتهي إليها، وأمدا تبلغه فلا تعدوه، وأن دينا يهبط على الناس من السماء في آخر الزمان، فيتم من أمر السماء ما بدأ، ويحمل الناس على الجادة، ويهديهم إلى الحق الذي لا شك فيه.»
قال الشيخ وقد أخذ حتى اضطر الفتى إلى أن يهدئ من روعه: «قل قل يا ابن أخي! وبماذا حدثك؟»
قال الفتى: «وحدثني بأن الجماعة عرفت أن أمر هذا الدين قد قرب، وأن زمانه قد أظل، وأنه لن يهبط من سماء الشام حيث هبط دين اليهود والنصارى، ولا من سماء الفرس حيث ظهر دين زرادشت، ولا من سماء اليونان حيث ظهرت ديانات اليونان، ولكنه سيتنزل من سماء واد غير ذي زرع، فيه قوم غلاظ قساة لاحظ لهم من علم ولا من كتاب، يطمئن أكثرهم إلى الجهل ويضيق به أقلهم، ولكنهم على ذلك يكتمون ما يجدون من هذا الضيق، ويشاركون العامة فيما هم فيه من الجهل. يقدم بعضهم على ذلك نفاقا ورياء والتماسا للمنفعة والثروة والسيادة، ويقدم بعضهم على ذلك عجزا وكسلا وإخلادا إلى الراحة والدعة. وقد فرقت الجماعة سفراءها في أقطار الأرض المجدبة غير ذات الزرع والضرع، فهم يلتمسون فيها هذه العلامات، ويسجلون ما يجدونه منها ويؤذن به بعضهم بعضا، وينتظرون فيها هذا الدين الجديد. ونسطاس أحد هؤلاء قد وقعت له أرضنا حظا، فأقبل إليها يلهينا بالخمر والغناء والنساء، وينتظر أمر السماء.»
ولم يبلغ الفتى هذا الموضع من كلامه، حتى وثب الشيخ وثبة لم يشك الفتى حتى رآها أنه قد فقد رشده ومسه طائف من جنون. ولكن الشيخ عاد إلى أمنه وهدوئه، وظل قائما مكانه وقد رفع يديه إلى السماء وهو يقول: «قدوس قدوس! أشهد ما أنبأتني خديجة إلا بالحق!»
3
ولم يظفر عمرو بن هشام من الشيخ بعد هذا الكلام الغامض بشيء يوضحه أو يجلوه، وإنما ظل الشيخ قائما مكانه باسطا يديه أمامه رافعا رأسه إلى السماء كأنما ينتظر منها شيئا، ثم انحنى رأسه واسترخت يداه إلى جنبيه، وعاد إلى الشيخ ضعفه وهرمه، فجثا على ركبتيه وأطرق إلى الأرض وجعل يصلي بكلام حاول الفتى أن يفهمه أو أن يتبين لفظه فلم يجد إلى ذلك سبيلا. فانصرف مغيظا محنقا يسأل نفسه في أعماق ضميره: أمس الشيخ طائف من جنون، أم أراد الشيخ إلى العبث به والتعمية عليه؟ فقد لاحظ عمرو بن هشام اشتغال الشيخ عنه حين أقبل عليه، وإعراضه عنه حين تحدث إليه، ومحاولة الفرار منه كلما ألح عليه في الحديث، وتكلف الغباء والقصور عن الفهم حين بدأ يصغى إليه. وكان عمرو بن هشام يعرف من ورقة غير هذا كله، كان يعرفه حفيا به يحسن القول له والاستماع منه. وكان يعرفه ذكيا حاد الذكاء بصيرا نافذ البصيرة، لا يكاد يحتاج من محدثه إلا إلى بدء الحديث. وكان يعرفه كلفا بأمور الدين لا يكاد يعرض لها عارض بين يديه حتى يندفع كأنه السيل، فينكر على قريش مكرها ونفاقها وتكلفها عبادة الأوثان، وما هي من عبادة الأوثان في شيء، ويرثي للعرب من جهالتهم هذه الجهلاء التي يغرقون فيها إغراقا منكرا حتى يضللهم سادة قريش بهذه الأكاذيب يصوغونها عن آلهتهم هذه المنصوبة، وهم يعلمون أنهم يكذبون ويضللون، وهم يسخرون من الناس ومن الآلهة حين يخلون إلى أنفسهم وحين يخلص بعضهم لبعض نجيا. وقد راب الفتى ما رآه من تغير الشيخ هذا الضحى، وزاده ريبة ما رآه من هذه الثورة المفاجئة حين ذكر له ما ذكر من أمر نسطاس. على أن الفتى لم يصل إلى هذا الموضع من نجوى ضميره حتى ازداد ريبة إلى ريبة وشكا إلى شك؛ فقد ذكر أن وجه نسطاس لم يكن خاليا له أمس، وأن نفسه لم تكن خالصة له كما تعودت أن تخلص له حين يتقدم الليل وتسكت الموسيقى وينقطع الغناء ويتفرق الندامى ويخلو الصديقان، لا يشهد خلوتهما إلا هذان القدحان قد بقيت فيهما بقية من شراب يقبلان عليه بين حين وحين فيحسوان منه حسو القطا، وإلا هذه النجوم التي كانت تطل عليهما من السماء كأنما تريد أن ترى ما يصنعان أو تسمع لما يقولان، وهي على ذلك تخفي عليهما أسرارا غامضة طالما اشتاقا إلى استجلائها، وإلا هذا النسيم الخفيف الضئيل الذي كان يختلس مسراه من سكون الليل اختلاسا ويمر بهما من آن إلى آن حذرا متحفظا كأنما يخشى أن يفطنا له فيدلا عليه ضوء الليل.
هنالك كانت نفسي الفتى العربي ونفس الرجل الرومي تمتزجان امتزاجا غريبا، فيصفو لهما الود، ويخلص بينهما الحب، ويطيب لهما الحديث. وربما غمرهما سكون الليل وسكوت الطبيعة من حولهما فسكنا وسكتا، ورأى كل منهما مع ذلك في نفس صاحبه كما يرى في المرآة، وفهم كل منهما عن صاحبه كما يفهم الصديق عن الصديق. فأما أمس فقد كان الرومي ذاهلا عن صاحبه بعض الذهول، لا يدنو منه إلا لينأى عنه، ولا يصل إليه إلا لينفصل عنه، وكان يحدثه أحاديث متقطعة، يتحمس في بعضها حتى يبلغ أبعد غايات التحمس، ويفتر في بعضها حتى يبلغ أقصى آماد الفتور. وقد ذكر عمرو بن هشام أنه انصرف عن صديقه الرومي كئيبا محزونا يرد عن نفسه ملالة لا تريد أن ترد، ويدفع عن نفسه سأما لا يريد أن يندفع. وكان يعلل نفسه بلقاء ورقة يتعزى ببشاشته وحديثه عن فتور نسطاس وشرود خاطره، كما أقبل على نسطاس من ليلته تلك يلتمس فيما عنده من لذة آثمة أو بريئة عزاء عن هذا العتاب الثقيل الذي لقيه به عمه، فآذاه به فيما لا يحب أن يؤذي فيه من هذه الحرية التي كان يؤثرها على كل شيء، ولا يرضى أن تكون موضوعا للأخذ والرد أو للجدال والنزاع.
وكانت كل هذه الخواطر تضطرب في نفس عمرو بن هشام وهو ماض في طريقه بين دار ورقة بن نوفل والمسجد. والحق أنه دفع إلى المسجد على غير إرادة منه؛ فلم يكن في نفسه شيء من النشاط للقاء شيوخ قريش وشبابها في أنديتهم تلك التي لا يسمع فيها إلا ما يضيق به من الحديث. ولو قد فكر في الغاية التي ينبغي أن يقصد إليها بعد ما خرج من عند الشيخ لتردد بين اثنتين: فإما أن يرجع إلى داره ليخلو فيها إلى نفسه ويستقصي حساب هذه الخواطر التي كان تضطرب في ضميره وإما أن يذهب إلى نسطاس، فلعله أن يجد عنده من النشاط وحضور الذهن ما ينسيه شروده أمس وشرود الشيخ عنه اليوم. ولكنه دفع إلى المسجد بحكم العادة؛ فقد كان ينفق أول النهار عند ورقة، حتى إذا ارتفع الضحى وكادت الشمس أن تزول سعي متباطئا إلى المسجد فأدرك أندية قريش قبل أن يتفرقوا وينصرف كل منهم إلى حيث يقيل. فلما بلغ المسجد كان قد انتهى من حساب نفسه إلى نتيجة مؤلمة له أشد الإيلام، مؤذية لكبريائه أشد الإيذاء، وهي أنه لقي ثلاثة من أحب الناس إليه وآثرهم عنده في أقل من يوم، فلم ير عند أحد منهم شيئا يرضيه. فعمه يعتب عليه عتبا ثقيلا، وصديقه الرومي يعرض عنه إعراضا مرا، وورقة بن نوفل لا يهدي إليه إلا هذا الغموض الذي هو أشد عليه من عتاب العم وإعراض الصديق.
ولم يكن يقدر أنه سيلقى من أندية قريش مثل ما لقي من هؤلاء الرجال الثلاثة: أشياء إن لم تحفظه وتنته به إلى الغيظ فهي لا تسره ولا ترضيه. ولو ملك الفتى زمام نفسه واستطاع أن يستقصي أمره كما كان يفعل دائما، لرد الأمور إلى أصولها، ولعرف أن أحدا من هؤلاء النفر الثلاثة لم يلقه بشيء يكرهه، وإنما هو الذي حمل نفسه على ما لا تحب فرأى عند هؤلاء الناس ما لم يكن يحب أن يرى؛ فقد كان يأخذ الأمور دائما أخذا هينا، لا يهتم لشيء ولا يضيق بشيء. وما أكثر ما كان يلقاه عمه بالجد المر والدعابة الحلوة فلا يحفل بذلك ولا يأبه له. ونفس الصديق ليست دائما خالصة للصديق، ووجه الخليل ليس دائما خاليا للخليل؛ فللناس من أمورهم الظاهرة والخفية ما يجوز أن يشغلهم عن أحسن أصدقائهم عندهم منزلة، وأرفعهم في قلوبهم مكانة. ولكن عمرو بن هشام كان هذه الأيام حرج الصدر ضيق النفس بكل شيء، قد عرضت له أزمة من هذه الأزمات التي تعرض لأصحاب القلوب الذكية والنفوس الأبية، حين يحسون الفراغ من حولهم، ويشعرون بأن الحياة باطل ما فيها من الجد والهزل ومن الشدة والرخاء، ويلتمسون لهذه الحياة غاية خيرا مما وجدوا إلى الآن، ويطلبون إليها ثمرات أحلى مذاقا وأبقى أثرا من كل ما بلوا إلى الآن، فلا يجدون شيئا مما يلتمسون، ولا يبلغون شيئا مما يطلبون.
هنالك ينكرون أنفسهم وينكرون الناس، وهنالك يضيقون بأنفسهم كما يضيقون بكل شيء وبكل إنسان. وهنالك يدق حسهم ويرق طبعهم، فإذا هم يجدون الألم والسأم في أشياء لم يكونوا من قبل يجدون فيها ألما ولا سأما. وآية ذلك أن عمرو بن هشام لم يلق ابتسام القوم له في ناديهم بابتسام مثله، ولم يرد تحيتهم الطيبة بتحية مثلها، وإنما أقبل فأهدى إلى قومه هذه التحية التي تدفع اللائمة ولا تزيد على ذلك. ولو قد استطاع لما ألم بهم ولا جلس إليهم. فقد رأى فيهم عمه الوليد بن المغيرة فكره ذلك أشد الكره، وكاد يمضي لوجهه لولا أن جعل القوم يرحبون به ويومئون إليه أن أقبل، ولولا أن جعل عمه يناديه: «أقبل أبا الحكم فقد جئت حين اشتدت الحاجة إليك.» ولم يكد عمرو يجلس إلى قومه حتى ابتدره عمه قائلا في دعابة حلوة: «هذا أوان يختبر حزمك وعزمك وفضلك فيما تعقد من الأمور.»
Halaman tidak diketahui