أقبل أيها الصبح! أسرع في الخطو، ارفق بهذه النفس الحائرة؛ هلم إلى سوطك المشرق المضيء، فبدد به هذه الأشخاص الماثلة، فرق به هذه الظلال المضطربة من حولي. ويقضي الفتى ليلا طويلا ثقيلا، حتى إذا كست الشمس بضوئها النقي ظواهر مكة وبطاحها، أسرع الفتى إلى المسجد يريد أن يقص أمره على الكاهن. ولكنه لا يكاد يبلغ مجالس قريش في فناء المسجد، حتى تذهب عنه حيرته، ويفارقه وجومه، ويمتلئ قلبه اطمئنانا وثباتا. ماذا؟ أأزعم للكاهن أني مجنون، وتشيع في هذه المقالة. ويضحك مني حرب بن أمية ولداته، ويتندر علي فتيان مخزوم! كلا! ما أكثر هذه الخيالات التي تسكن إلى نفسها في قبور الموتى، وتختبئ في الكهوف والأغوار ما أضاءت الشمس واستيقظت الطبيعة، فإذا أظلم الليل ونام الكون، انتشرت هذه الخيالات في الجو، فمنها ما يصعد في السماء يرعى النجوم، ومنها ما يهبط الأرض يروع الناس. وما أرى أن هذا الطائف الذي يؤرقني منذ ثلاث إلا خيالا من هذه الخيالات، لعله ظل ميت من موتى قريش قد أنسيه قومه، فهم لا يزورونه ولا يقربونه إليه. لعله شيطان من هذه الشياطين التي تلح على الإنس فتتقاضاهم الطاعة وتخضعهم لسلطانها كرها. لعله نذير من أحد الآلهة يطالب بالتضحية والقربان. لقد مضت أيام ولم تقدم إلى الآلهة شاة ولم ينحر لهم جزور، ولم تصطبغ أرض المسجد بهذا الدم الحار القانئ الذي تحب الآلهة لونه ورائحته. إيه يا عبد المطلب؛ تقرب إلى الآلهة بضحية ترضيهم لعلهم يرضون، ولعلهم يكفون عنك هذا الشر. وأقبل الفتى على مجلس من مجالس قريش، فتحدث وسمع، ولكنه كان شارد النفس، فلم يطل الحديث ولا الاستماع ونهض موليا. فلما انصرف عن القوم قال حرب بن أمية لمن حوله: أرأيتم إلى سري بني هاشم! إني لأراه محزونا، وإني لأعرف في وجهه الهم، لم يحدثنا اليوم عن مآثر أبيه ومفاخر عمه.
ومضى الفتى إلى أهله. فلما دخل على امرأته أنكرت عودته إليها من الضحى، فاستقبلته دهشة وهي تقول: إيه يا شيبة! ما خطبك؟ إني لأنكرك منذ أيام، أراك مؤرق الليل، قلق النهار، قليل الحديث، طويل التفكير. ولقد هممت أن أسألك مرات، ولكني خشيت ردك علي وانتهارك لي؛ فإني لأعلم فيكم معشر قريش رقة للنساء، ودعابة معهن، ولكني لا أجد عندك ما أجد عند قومك؛ فأنت صامت إذا خلوت إلى أهلك، وأنت مقطب الجبين إن ظلك معهم سقف. تحدث! ما يحزنك؟ اخرج عن هذا الصمت الذي لزمته، كن رجلا من قريش، أشرك أهلك فيما يعنيك. لقد أذكر يوم أنبأني أبي أنك خطبتني إليه. لقد فرحت بهذا النبأ، لقد كنت أتحدث إلى أترابي في البادية بأني سأصبح امرأة من قريش، أجد من نعمة الحياة ولينها، ومن ظرف الزوج ورقته ما لا يجدن تحت خيام بني عامر بن صعصعة. ولكني وجدت نعمة ولينا، ووجدت حبا وعطفا، ووجدت عناية لا تعدلها عناية، ولم أجد أحب ما كنت أطمح إليه: لم أجد منك ابتسام الثغر، ولا انبساط الجبين، ولا انطلاق اللسان.
قالت ذلك وانتظرت هنيهة. فأجابها زوجها بصوت هادئ حزين: عزيز علي يا سمراء ما تجدين من حزن، وما تحسين من خيبة أمل! إني لأحبك كما يحب الظمآن ما ينقع غلته من الماء العذب، إني لآنس إليك أنسا يزيل عن نفسي كل هم، ويحبب إلي الحياة ويرغبني فيها. إني لأشتاق إلى التحدث إليك والاستماع لك والأنس بك. ولو خيرت لما عدلت بمجلسك مجلس قريش، ولا ببيتك فناء المسجد ودار الندوة. ولكن قوة خفية عاتية طاغية تملك علي نفسي، وتأخذ علي كل سبيل وتدفعني إلى حيث لا أدري ولا أريد. إيه يا سمراء! إني لمؤرق الليل، قلق النهار، مفرق النفس منذ ليال، وإني لأخشى على نفسي شرا. هذا طائف يلم بي إذا أغرقت في النوم، فيأمرني بصوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة، أن أحفر شيئا يسميه طيبة، ويسميه برة، ويسميه المضنونة. فإذا سألته عما يريد، انصرف شخصه، وانقطع صوته، وأفقت حائرا مذعورا لقد هممت يا سمراء أن أقص رؤياي هذه على الكاهن، وأن أصف له ما أرى وما أجد، ولكني أشفقت أن يتحدث الناس عني أني مجنون، أو أن يتندر بي فتيان قريش فيقولون: إن له رئيا من الجن. أشيري ماذا ترين؟ قالت سمراء: هون عليك ولا تغل في الخوف ولا تسرف في الإشفاق. ما أكثر ما يلم أمثال هذا الطيف بالناس عندنا في البادية، فلا يحفلون ولا يأبهون. ومع ذلك فما يمنعك أن تتقرب أنت إلى الآلهة في غير توسط للكاهن ولا توسل به؛ قم فضح لهم، وقرب إليهم، فسيرضون وسيرضى الفقراء والجائعون، وسيغيظ ذلك قوما من قريش.
وما هي إلا ساعات حتى كان فناء المسجد يموج بالناس، فيهم الفقراء قد أقبلوا من البطاح والظواهر، وفيهم الأغنياء قد أقبلوا يقدمون الضحايا بين أيديهم. هؤلاء يتنافسون أيهم يغلي الضحايا ويكثر منها، وأولئك ينتظرون ويمنون أنفسهم بغريض اللحم وجيده. لقد سمعوا أن عبد المطلب يريد أن يضحي، وأن بني هاشم قد حفلت لذلك؛ فكرهت أمية ألا تفعل فعلهم، وكرهت مخزوم أن تسبقها عبد مناف، فأقبل أشراف قريش يستبقون في التضحية ويتنافسون في القربان. تنافسوا! تنافسوا أيها الأشراف! استبقوا أيها الأغنياء! فإن في ذلك شبع الفقراء وسعادة الأشقياء.
وقضت مكة يوما داميا سمينا ، كثر فيه الطعام، وكثر فيه الشراب، ورضيت فيه الأصنام. وسعد الفتى بما رأى، ونسي الفتى ما كان يهمه وينغصه، وقدر الفتى أن قد صرف عنه الشر، ورد عنه المكروه. ورضيت سمراء، فتحدثت كثيرا وسمعت كثيرا، وأضحكت زوجها وابنها الحارث بملح الأعراب ونوادر البادية، وقالت لزوجها وهي تمسح رأسه: أحبب إلي بهذا الطائف الذي أرقك وأضناك؛ فقد حقق أملي وأراني ما كنت أطمح إليه، ورسم في قلبي صورتك جميلة خلابة، فلن أراك منذ اليوم - مهما تكن الخطوب - إلا باسم الثغر، منبسط الجبين، منطلق اللسان. وهل السعادة إلا لحظات قصار، تصيبنا ولم ننتظرها ولم نقدر لها حسابا؛ فما أسعد القلب الذي يحتفظ بهذه اللحظات حين تمر، ويتخذها ذخرا للأيام وما يعرض فيها من الخطوب!
قال عبد المطلب: إذا فأنت راضية يا سمراء. إن رضاك ليقع من نفسي المخزونة موقع الماء من الأرض المجدبة. انعمي بما أنت فيه، وانتظري أن يقدر الله لك خيرا منه. فلو قد صرفت عني هذه القوة العاتية الطاغية، لأريتك يا سمراء كيف تطيب الحياة، وكيف ترق حواشي العيش!
وأوى الفتى إلى مضجعه راضيا مسرورا، واستقبل النوم مبتهجا له راغبا فيه. ولكن هذا الشخص يقدم عليه ساعيا في هدوء، كأنما يمشي في الهواء، حتى إذا دنا منه انحنى عليه، ووضع على جبهته يدا باردة خفيفة وقال في صوت رفيق غريب، فيه أنس وفيه وحشة: «احفر زمزم.» واضطرب جسم الفتى كله، واضطربت نفس الفتي كلها، وانفتحت شفتاه عن هذه الكلمة: «وما زمزم؟» قال الطيف بصوت رفيق مؤنس، قد فارقته الغرابة والوحشة، ومازجته سخرية ورحمة: «لا تنزح ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم.» قال الفتى: «الآن قد وعيت.» فتولى عنه الطيف باسما وهو يقول: «لله أنتم أيها الناس؛ لا يكفيكم الوحي، ولا تفقهون إلا سجع الكهان! رويدا! عما قريب سيضيء الصبح!» ونهض الفتى مبتهجا مسرورا. فلما أصبح دخل على سمراء مشرق الوجه مضيء الأسارير.
قالت وهي تسعى إليه: أيهما أحب إلى نفسي إشراق وجهك أم إشراق الشمس؟! ما أرى إلا أنك قضيت ليلا هادئا.
قال: انعمي صباحا يا سمراء! لقد طابت الحياة منذ اليوم. إن هذا الطائف الذي يلم بي منذ ليالي، طائف خير يأتي بالنعمة والغيث. إنه يأمرني أن أحتفر في فناء المسجد بئرا، فلأفعلن منذ اليوم. ولئن ظفرت بها ليشربن الحجيج في غير جهد ولا عسر. هلم يا حارث خذ معولا
1
Halaman tidak diketahui