قالت: «ويحكن! لقد رأيتنه وسمعتنه، وعلمتن أنه محمد بن عبد الله ذلك الذي كان يرعى لقومه الغنم بالقراريط في أجياد.»
قلن: «لقد رأينا محمدا غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه ماضيا بها إلى مراعيها، ورأيناه غير مرة وهو يدفع الغنم أمامه عائدا بها إلى حظائرها، فما رأيناه قط على مثل هذه الحال. لقد كان منظره يعجب، وقد كان محضره يخلب. ولقد كان كل شيء يحبب فيه ويدعو إليه. ولقد كانت أحاديث قومه عنه وآراء قومه فيه تصبي إليه النفوس، وتعطف عليه القلوب. ولكنه كان على كل حال فتى فقيرا معدما يرعى الغنم لقومه بأجياد. وكنا نرى أن ليس من النصح لك، ولا من الإخلاص في مودتك، والوفاء بما لك علينا من حق، أن نعينك على ما كنت تجدين من حب له، وميل إليه، ورغبة في أن تتخذيه لك زوجا، وأنت من تعلمين مكانة في قومك، وارتفاعا في نسبك، وضخامة في المال، وسعة في الثروة، وسلطانا على نفوس الكهول والشباب من سادة قريش وأشراف مضر. كلهم سعى إليك. وكلهم رغب فيك، وكلهم خطبك وتمنى أن تكوني له زوجا، فما صبوت إلى واحد منهم، وما حفلت بما أضمر لك من حب، وما أظهر لك من ود، وما قدم إليك من مال.»
قالت خديجة: «لئن كنت رفيعة المكانة في قومي فما مكانة محمد من قريش دون مكانتي، وإنا لننتهي جميعا إلى قصي. ولئن كنت كثيرة المال ضخمة الثروة، فما عرفت قط أن المال يزن إلى جانب الحب شيئا. ولقد رددت من خطبني من أشراف قومي وسادتهم؛ لأني لم أشعر قط بالميل إلى أحد منهم ، ولم أفكر في أن أمري يصلح للزواج أو يستقيم عليه، ولم أر قط أن بين هؤلاء السادة والأشراف من شباب قريش وكهولها من يستطيع أن يستعلي بعقله ورأيه على عقلي ورأيي. ولكن ما رأيت محمدا قط إلا صبت إليه نفسي، ومال إليه قلبي، وأذعنت لسلطانه العظيم علي كل الإذعان.»
قلن: «كان ذلك قبل أن تري ما رأيت الآن. فأما بعد هذا المنظر العجيب الذي لم ير الناس مثله قط فما ندري ما أنت فاعلة!»
قالت: «سترين ما أنا فاعلة، ولكن أن تعرفن أو تنكرن، وأن ترضين أو تغضبن.»
قلن: «ما ينبغي لنا أن ننكر أو نغضب وقد رأينا ما رأينا. وإنك لأسعد امرأة من قريش إن ظفرت بأن يكون محمد لك زوجا.»
وكان اليوم من أيام مكة الثقيلة البغيضة التي تلح عليها حين يشتد القيظ فترسل عليها من أشعة الشمس نارا محرقة، تسكن لها الحركة، وتخفت لها الأصوات، ويهدأ لها كل شيء، ويكاد يصيح من لذعها أديم الأرض، وتشكو من حرها هذه الصخور التي تتوهج وتتلظى فتملأ الجو لهيبا وسعيرا.
وكان البشير قد أقبل مع الصبح، فمضى في المدينة من أعلاها إلى أسفلها يبعث صيحاته الحلوة الجميلة التي تتلقفها الأسماع وتطمئن لها القلوب، والتي تنبئ قريشا بأن العير قد أقبلت من الشام سالمة غانمة موفورة، فترد إلى رجال قريش ونسائها هذه النفوس التي كانت مشردة تتبع الأبناء والإخوة والأزواج والآباء في هذه الطرق الملتوية المخوفة بين أودية تهامة وبلاد الروم، وتثير في القلوب ألوانا من الفرح مختلفة متباينة: فقوم يفرحون لعودة ذويهم إليهم موفورين، وقوم يفرحون لعودة ثروتهم إليهم رابحة نامية، وقوم يفرحون لما حمل إليهم ذووهم من هذه الأمتعة والعروض التي كانوا يكلفون بها ويرغبون فيها وقد يتحرقون إليها تحرقا. وقوم يفرحون باجتماع الشمل بعد تفرقه، وبعودة الحياة إلى طبيعتها الهادئة الآمنة المطمئنة البريئة من الخوف على الأنفس والأموال.
وكانت قريش كلها تتهيأ لاستقبال العير إذا كفت عنها الشمس هذه النار المحرقة، وأتاحت لها البروز إلى ظاهر المدينة تلقى فيها الأحبة وما يجلبون من الثروة والغنى، وما يحملون من أسباب اللذة والمتاع.
وكانت خديجة تنتظر مقدم العير أشد ما تكون شوقا إليه، ووجدا به، وتلهفا عليه! لا لأن العير كانت تحمل لها تجارة واسعة إلى الشام، فكانت خديجة تريد أن تعرف ما كان من أمر تجارتها، وما أتيح لها من ربح، أو كتب عليها من كساد! فما كانت هذه أول مرة فصلت فيها العير عن مكة بتجارة خديجة الواسعة، وما كانت هذه أول مرة عادت فيها العير إلى مكة بتجارة خديجة نافقة أو كاسدة! فما أكثر ما أرسلت خديجة تجارتها في العير إلى الشام! وما أكثر ما انتظرت خديجة عودة العير هادئة وادعة، لا يخرجها الربح عن وقارها إلى هذا الفرح غير المنتظم الذي كان يخرج إليه رجال قريش ونساؤها، ولا يردها الكساد عن وقارها إلى هذا الحزن العميق الذي كانت ترتد إليه رجال قريش ونساؤها حين تتعرض تجارة مكة لبعض الشر، أو يلم بها بعض المكروه. وإنما كانت خديجة سيدة جلدة حازمة، صبورا وقورا، متزنة النفس، معتدلة المزاج، ترضى فلا يخرجها الرضا عن طورها، وتسخط فلا يغير السخط من شأنها شيئا، ويراها الناس راضية وساخطة، وهادئة مطمئنة في الحالين، فتمتلئ قلوبهم إعجابا بها وإكبارا لها، ويشهدون بأن قريشا لم تعرف قط أحدا أملك لنفسه وأضبط لأمره وأقدر على عواطفه من هذه السيدة الجميلة الوضيئة الرزينة التي كادت تبلغ من سنها الأربعين.
Halaman tidak diketahui