وتعنفني بالتكدير والتهديد، فلم أزد إلا نفورا، وعن صنعة التطريز قصورا. فبادر والدي، تغمد الله بالغفران ثراه وجعل غرف الفردوس مأواه، وقال لها: «دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكمة.» ثم أخذني بيدي وخرج بي إلى محفل الكتاب، ورتب لي أستاذين؛ أحدهما لتعليم اللغة الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية. وصار يسمع ما أتلقاه من الدروس كل ليلة بنفسه ...
وهي تتبسط في هذا الحديث في مقدمة ديوانها التركي والفارسي
7
بكلام مشوق، لا سيما أنه أهم ما لدينا لمسايرتها في نشأتها. فتكرر القول أن والدتها كانت تحثها على تعلم التطريز ورأيها «أن هذا النسيج هو أداة النساء وأستاذ المعارف لبنات حواء ...» أما عائشة فلا تراه إلا «كالهم العنيف ...» فتتابع: «وبالرغم مما كان متأصلا في نفسي من الميل إلى تحصيل المعارف من جهة والحصول على رضى والدتي من جهة أخرى، فإن نفسي ما برحت نافرة من المشاغل النسوية.» وكان من دأبي أن أخرج دائما إلى قاعة منزلنا (السلاملك) فأمر بمن يوجد هناك من الكتاب لأصغي إلى نغماتهم المطربة. ولكن أمي - أقرها الله في رياض الفراديس - كانت تتأذى من عملي هذا فتقابلني عليه بالتعنيف والتهديد والإنذار والوعيد. وتجنح أحيانا إلى الوعود اللطيفة والترغيب بالحلي والحلل الطريفة. أما أبي، رحمه الله، فكان يخاطبها بمعنى قول الشاعر التركي:
إن القلب لا يهتدي بالقوة إلى الطريق المطلوب
فلا تجعل النفس معذبة في يد اقتدارك ...
فاحذري من أن تكسري قلب هذه الصغيرة وأن تثلمي بالعنف طهره، وما دامت ابنتنا ميالة بطبعها إلى المحابر والأوراق فلا تقفي في سبيل ميلها ورغبتها. وتعالي نتقاسم بنتينا: فخذي «عفت» وأعطيني «عصمت». وإذا كانت لي من عصمت كاتبة وشاعرة فسيكون ذلك مجلبة الرحمة لي بعد مماتي.
ثم وجه أبي خطابه إلي قائلا: تعالي إلي يا عصمت. ومنذ غد سآتيك بأستاذين يعلمانك التركية والفارسية والفقه ونحو اللغة العربية. فاجتهدي في دروسك، واتبعي ما أرشدك إليه، واحذري أن أقف موقف الخجل أمام أمك» فوعدت أبي بامتثال هداه، ووعدته على أني سأبذل جهدي لأكون موضع ثقته ومحققة أمله.
8
في مناقشة هذين الأبوين وتغلب الأب في النهاية، أمثولة لكثير من الوالدين في هذا العصر. فالأهل يقر رأيهم منذ حداثة أبنائهم في الغالب ، على السبيل التي سيسلكون. فيقولون: نجعل هذا طبيبا، وذاك محاميا، والآخر مهندسا، وأخاه تاجرا ... إلخ. ولو هم تفحصوا الميول والممكنات لربما وجدوا أن المحامي المزعوم لن يفلح في غير الطب، وأن المهندس خلق للتجارة أو للصحافة وأن الطبيب هيأته الطبيعة لبيع الأثاث القديم في المزاد العلني. وهلم جرا. هذا عدا تعويد الولد لباسا وأساليب لا تتفق مع مقدرته المالية، وبث الأطماع الجنونية فيه حيث لا كفاءة ولا حذق يؤهلانه لتحقيق الغايات الكبيرة. كثير من شقاء العالم اليوم راجع لسوء تدبير الأهل. فيصرف الأولاد الأعوام في تلمس السبيل مجهدين نفوسهم في نيل ما ليس لهم، معذبين الآخرين وكل قلق حائر ففي صراع الأنانيات لتركيز الحظوظ وتنظيم المعيشة.
Halaman tidak diketahui