ولثم جبيني ثم غادر الغرفة كما جاء. ولم أبح بسر الليلة لأحد، فظن النساء أن نفرتيتي قد خسرت نصف قلب الملك على الأقل. وكرت الأيام فلفحتنا نيران الأفئدة المضطرمة في الخارج حتى صدر القرار ببناء مدينة جديدة. وبعد سنوات انتقلنا إلى أخت آتون، وسعد جميع من حولنا، ونبذنا في جناح لممارسة حياة غير محتملة مهينة، دافعة للشذوذ، ولما عرف أن الملك الأبله يعالج الخطايا بالحب لا العقاب، انتشر الفسق بين الجنود والنساء، وأهدرت جميع القيم. وراح الملك ينشر دينه الجديد في الأقاليم، واستبقت النساء إلى الصلاة للإله الواحد بغير إيمان حقيقي، حتى خيل إلي أنه دين بلا مؤمنين، وأنه كون أمة من المنافقين والطموحين إلى المناصب والجاه والمال. ولم أتصور أن يكون لهذا الكون الكبير إله واحد! إن كل مدينة في حاجة إلى إله يعنى بشئونها، وكل نشاط إنساني في حاجة إلى إله متمرس فيه. وكيف تقوم المعاملة بين الناس على الحب؟ إنه هذيان طفل لم تحسن تربيته، وأفسده ولع أمه به. وكان يلقي على الجموع شعره، ثم تترنم زوجته بإنشادها، فحل محل العرش المعبود فرقة جوالة من الشعراء والمطربين ، وتلاشت هيبة الفراعنة. وكان لا بد أن يقع ما وقع، فجاءت الأحزان مثل ليل طويل لا يؤذن بفجر، وتتابعت المصائب في داخل البلاد كما في الإمبراطورية، وصمد أبي الشجاع المخلص وحده وهو يبعث الرسل في طلب النجدة حتى سقط مضرجا بدمه في الميدان دفاعا عن ملك أبله. وأحسن أناس الظن به فحسبوه شاعرا نبيلا أخطأ القدر بإجلاسه فوق العرش. أما الحقيقة فهي أنه كان مخلوقا غريبا، لا هو ذكر ولا هو أنثى، يؤرقه الشعور بالنقص والهوان، فجر الناس إلى الهوان، وأعلن شعار الحب، ولكنه أشعل في القلوب البغضاء والحقد والفساد، فمزق وطنه وضيع إمبراطوريته. وجارته في جنونه المرأة الداهية نفرتيتي لتستأثر بالسلطة، ولتشبع غريزتها الفاجرة بين أحضان الرجال. وقد أقنعت الجميع بأنها وزوجها يشكلان أجمل صورة للحب والوفاء، كانا يتبادلان القبل أمام الجموع في شوارع أخت آتون وفي لقاءات الأقاليم. والحق الذي يؤمن به نساء القصر كافة أنه لم تقم بينهما علاقة زوجية على الإطلاق، وما كان بوسعه أن يقيمها، ومارست حبها متعدد النزوات مع المثال بك والقائد حور محب والقائد ماي وغيرهم، ومنهم أنجبت بناتها الست، بل قد تهامس بعض الجواري بأنه لم يمارس علاقة جنسية إلا مع أمه الملكة تيى! ...
ولاذت بالصمت وهي تلاحظ ما ارتسم في وجهي من آي الذهول، ثم واصلت: وعرف بيننا ذلك كحقيقة لا شك فيها، وعرف أيضا أنه أنجب منها بنتا، إنه لم يستطع الجنس مع غيرها، وشهدت أكثر من جارية بأنها رأت الفعل رؤية العين، ولم يغب ذلك عن نفرتيتي، وبسببه تبادلت المرأتان كراهية مريرة على مدى العمر. المشكلة أن كثيرين لا يتصورون أن الرجل الذي زلزل الدنيا يمكن أن يتمخض عن كائن هزيل تافه لا وزن له، لكنها الحقيقة التي يجب أن تعرف وأن تسجل. ولولا أنه كان الوريث لأعظم أسرة في التاريخ لمضى فردا حقيرا في أزقة طيبة يتدفق ريق العته من فيه، وتعبث به الصبيان، ولا غرابة أن يستطيع معتوه - إذا جلس على العرش - أن يخرب إمبراطورية! ولولا أن نفرتيتي راقت في عينيه لما كانت إلا عاهرة من عاهرات طيبة المحترفات.
وقبيل النهاية بقليل زارت الملكة الأم أخت آتون لإنقاذ السفينة الموشكة على الغرق، ولكن النقاش احتد بينها وبين نفرتيتي، ولم تتورع الملكة الشابة عن اتهام العجوز بأنها متواطئة مع أعداء العرش، ولكن إخناتون حزن لذلك الاتهام، ودافع عن أمه وعشيقته دفاعا حارا، فغضبت نفرتيتي وأسرتها له في أعماقها، وانتقمت في اللحظة الحرجة، فهجرته فجأة قبل أن يقرر رجاله التخلي عنه، وحاولت استرضاء الكهنة لتجد لها موضعا في الدولة الجديدة، وربما طمحت أن تكون زوجة لتوت عنخ آمون، ولكنهم وطئوا مسعاها بالنعال، ولولا نفوذ عشيقها القديم حور محب لمزقوها إربا.
صمتت تادوخيبا وهي تبتسم بازدراء، ثم ختمت حديثها قائلة: هذه هي قصة المعتوه وديانته الخرقاء!
توتو
لم أكفر بإلهي آمون قط، ولم أنضم إلى قافلة المنافقين والانتهازيين، ولكنني خدمت المارق بالاتفاق مع كاهن آمون الأكبر لأكون عينه اليقظة في القصر، ويده الضاربة عند الضرورة.
هكذا بادرني توتو وزير الرسائل في عهد إخناتون دافعا عن نفسه تهمة النفاق التي تحلق فوق رجال إخناتون. وقد قابلته في مقصورته بالمعبد حيث يشغل وظيفة الكاهن المرتل في عهد توت عنخ آمون كما شغلها في عهد أمنحتب الثالث. وهو رجل دين ريان الوجه، جاحظ العينين، عنيف الأعصاب. ودون تردد راح يعطيني تصوره عن المأساة. قال: امتازت هذه الأسرة العريقة بملوكها العظام، فلم يتسلل إليها الخور إلا حين اختار أمنحتب الثالث شريكته في العرش من أسرة شعبية، فاستعارت له ذلك الوريث الأرعن المخبول. وقد اتبع الملوك العظام معنا - نحن كهنة آمون - سياسة جديدة. عرفوا لآمون قدره وفضله، وآمنوا به كبيرا لجميع الآلهة، وفي الوقت نفسه أولوا كهنة الآلهة الأخرى رعاياتهم؛ ليضمنوا إخلاص الجميع، وليقيموا بيننا وبين بقية الكهنة توازنا يضاعف من قوة العرش واستقلاله. ولم تصادف تلك السياسة هوى في نفوسنا، ولكنها لم تبلغ بنا حد الاستياء أو الاعتراض، ولم تنل من سمو مركزنا. ولما ولي العرش المارق وجد الطريق أمامه واضحا، وكان من الممكن أن يسير فيه بسلام ملتزما بمنهج آبائه وأجداده، ولكن الخنفساء توهمت أنها أسد فكانت الكارثة. لم يكن كأحد من سابقيه في القوة أو الحكمة، وكان واعيا بضعفه وقبحه وأنوثته، ولكنه أوتي من المكر والخبث ما لا يتاح إلا لمن أذله الضعف وأحرقه الحقد، فقرر أن يتخلص من جميع الكهنة ليخلو له وجه الملك وحده، ثم ينصب نفسه إلها يستأثر بالعبادة دون شريك إلا إلها وهميا يتخذه قناعا لطموحه. ومضت تبلغنا أنباء عن معجزات الصبي الذي تفوق قواه سنه الصغير، حتى عرفنا حكاية الإله الجديد الذي تجلى له ودعاه إلى الكفر بجميع الآلهة. وقلت يومها للكاهن الأكبر: إنها مؤامرة، ويجب أن تقتل في مهدها.
وبدا أنه لا يسلم بأنها مؤامرة، فقلت: إني أتهم الملكة تيى والحكيم آي، أما الغلام فلا مسئولية عليه.
فقال الكاهن الأكبر: لا أعفي الملكة من جانب من المسئولية، ولكنها مسئولية الخطأ في التقدير، أما آي فقد توكد لي أنه لا يقل عنا انزعاجا ...
ولم يسعني إلا تصديقه؛ فهو معصوم من الخطأ، فقلت: إذن فنحن حيال كائن قد حلت فيه روح ست إله الشر، فيجب اغتياله فورا.
Halaman tidak diketahui