قال محمد: «هلم بنا فإنه إن كان رسول معاوية فما جاء إلا لحرب لا سلم، لأن أمير المؤمنين كتب إليه منذ ثلاثة أشهر ولم يجب بعد.» ثم انطلقا. وكان الرسول قد دخل باب المدينة، فلما دنا منهما تفرسا فإذا هو رجل من بني عبس وعليه قيافة أهل الشام، وقد التف بالعباءة وتلثم وعلاه غبار السفر. فلما دخل المدينة أخرج من جيبه صحيفة مختومة قبض عليها من أسفلها ورفعها والناس وراءه ينظرون إليها، فاستوقفه محمد وقال له: «ممن أنت؟»
قال الرسول: «من معاوية بن أبي سفيان.» قال: «إلى من؟»
قال: «إلى علي بن أبي طالب.»
قال الحسن: «وماذا تحمل إليه؟» قال: «هذا الكتاب.» فقال: «اذهب إلى أمير المؤمنين إنه في داره.» فانطلق الرسول وهما في أثره وقد شغلا بما عسى أن يكون في ذلك الكتاب، ولولا حرمة أمير المؤمنين لفضا الختم تلهفا على علم ما فيه.
ووصل الرسول إلى دار علي فترجل واشتغل بعقل جمله، فسبقه محمد والحسن إلى الخليفة وكان متكئا في حجرته، فأعلماه بقدوم الرسول فأمر بإدخاله إليه.
فدخل وعلي جالس ومحمد والحسن وغيرهما من الصحابة بين يديه، فتقدم الرسول في غير تهيب ورفع الكتاب بيده، فهم بعض الحاضرين بأن يتناوله منه ولكنه أبى أن يسلمه لغير الإمام علي.
فمد علي يده وتناول الكتاب فقرأ على ظاهره: «من معاوية إلى علي»، ثم فضه والناس كأن على رءوسهم الطير، فلم يجد فيه شيئا فبغت وغضب، والتفت إلى الرسول وقال: «ما وراءك؟!» قال: «آمن أنا؟» قال: «نعم، إن الرسول آمن.» قال: «تركت ورائي قوما لا يرضون إلا بالقود.» قال علي: «ممن؟» قال: «من خيط رقبتك. وتركت ورائي ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد جعلوه على منبر دمشق.»
فنظر علي إليه وقال: «أمني يطلبون دم عثمان؟! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، قد نجا والله قتلة عثمان إلا من يشاء الله.» قال ذلك وأدار وجهه عن الرسول كأنه لم يعد يستطيع أن يراه، وأشار إليه أن يخرج.
قال: «أأخرج وأنا آمن؟» قال: «وأنت آمن.» فمشى الرجل يريد الخروج فاعترضه بعض رجال علي وهموا بقتله فصاح فيهم علي ومنعهم، فنجا العبسي وهو لا يكاد يصدق.
وأشار الإمام إلى الناس فخرجوا، وخلا إلى خاصته وفيهم أولاده ومحمد بن أبي بكر، وبعث إلى عبد الله بن عباس، وقال لهم: «قد سمعتم ما قاله معاوية، فلم يبق ثمة بد من القتال فتهيئوا.» فقالوا بصوت واحد: «إنا معك أنى سرت، وما تنتدبنا إليه فإنا طوع أمرك.» فجند جندا عقد لواءه لابنه محمد بن الحنفية، وجعل على ميمنته عبد الله بن عباس وعلى ميسرته عمرو بن سلمة. وتثاقل أهل المدينة في بادئ الأمر ولكنهم أطاعوا أخيرا.
Halaman tidak diketahui