ولم تتم كلامها حتى جاءها غلام ينبئها بقدوم ابن عامر وابن منية فقالت: «ليدخلا.» فدخل أولا ابن عامر وهو شاب في الثلاثين من عمره وعليه جبة حمراء، ثم دخل يعلى بن منية وهو يمشي عرجا وقد كسرت فخذه في طريقه من اليمن، وكان قد سمع بمقتل عثمان فأقبل لينصره فسقط عن بعيره في الطريق فانكسرت فخذه. فجاء برجاله وماله. فلما دخل ابن عامر وابن منية سلما على طلحة والزبير، فقال طلحة لابن منية: «ما لي أراك تمشي عرجا؟!»
قال: «كسرت رجلي وأنا قادم لنصرة عثمان. ولكن معي المال والرجال، قوموا بنا للأخذ بالثأر.»
فقال الزبير: «هلم بنا إلى الشام.»
فاعترضه ابن عامر قائلا: «ما لنا وللشام وفيها معاوية وهو يكفيكموها؟ ولكني أرى أن تأتوا البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى وهم ميالون لمبايعته.» فقالوا: «قبحك الله! إنك تريد الفتنة. ولكن دعنا من ذلك ولنسر إلى البصرة.»
فتم الرأي على أن يسيروا إلى البصرة، يدعون من بها للطلب بدم عثمان وينهضونهم كما أنهضوا أهل مكة. •••
وكانت أسماء تسمع حديثهم من وراء العريش، فلما علمت بما تم إجماعهم عليه عظم عليها الأمر وتحققت أن الفتنة واقعة لا ريب فيها فأثر ذلك في نفسها، فاضطربت وخفق قلبها وثارت الحمية في رأسها حتى كادت تهم بالنهوض والدخول على الجمع. فأدركت العجوز اضطرابها فأمسكت بيدها فإذا هي ترتعش، فأخذت تهدئ من روعها خوفا عليها، ولكن هذه قالت لها: «لا صبر لي على ما أسمع، وهم إنما يريدون الانتقاض على الإمام علي بعد أن رأيتهم بعيني يبايعونه ويقسمون على الطاعة!»
وما لبثت أن سمعت صوتا ارتعدت له جوارحها، وكان صوت مروان وقد أقبل ودخل العريش. وقبل أن يلقي التحية خاطب طلحة والزبير ضاحكا يقول: «على أيكما أسلم بالإمارة وأؤذن للصلاة؟!» يلمح إلى أن أحدهما سيكون أمير المؤمنين.
فأجابه عبد الله بن الزبير: «على أبي». فاعترضه محمد بن طلحة وقال: «بل على أبي.» فضحك مروان وقال: «بل اجعلوا الخلافة في ولد عثمان لأنكم إنما خرجتم تطالبون بدمه»، فقال طلحة: «كيف ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم؟!» فأجاب وهو يتمتم: «لا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف.»
فابتدرته أم المؤمنين قائلة: «أتريد أن تفرق أمرنا يا مروان؟ ليصل بالناس ابن أختي.» تعني عبد الله بن الزبير.
فلما سمعت أسماء كلام مروان لم تعد تستطيع صبرا، ولا سيما بعد أن رأت عائشة تنتهره، فنهضت وأسرعت إلى العريش واخترقت الجمع وهي ترتجف وقد امتقع لونها فلما رآها الناس بغتوا، وكان طلحة والزبير يعرفانها. فوقفت غير هيابة ولا وجلة ونظرت إلى مروان وقالت: «أما كفاك يا مروان ما أيقظت من الفتنة في المدينة؟! أما كفى أنك السبب في مقتل الخليفة حتى جئت تلقي الشقاق بين بقية الصحابة؟! والله لولا حرمة أم المؤمنين لأرقت دمك بين يديها! فلا أراك براجع عن غيك حتى تفتن المسلمين وتغري بعضهم ببعض!» والتفتت إلى أم المؤمنين لترى ما يبدو منها.
Halaman tidak diketahui