قالت: «أراك يا بنية تنظرين إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، أيعقل أن عليا وهو صاحب الكلمة التي لا ترد في أهل المدينة قصد إلى الدفاع عن عثمان وأنه غلب على أمره؟!»
قالت: «عرفت يقينا أنه أول غاضب على القائمين بهذه الفتنة، ولقد سمعته اتفاقا ذات ليلة وهو يناجي رسول الله عند قبره، يشكو إليه ما أصاب أمته من التشتت بعده، فسمعت كلاما يتفتت له الصخر يتخلله البكاء حزنا على الإسلام. إن عليا يا مولاتي مخلص في قوله وفعله ولا لوم عليه، ولعلك إن وجهت اللوم إلى القاتلين أو المحرضين وجدت القول ذا سعة، وأما إلى علي فلا.» قالت ذلك وهي ما زالت تتهيب موقفها بين يدي أم المؤمنين، فما أتمت كلامها حتى تصبب العرق من جبينها. فتحركت عائشة في مجلسها وقالت وقد أخذ منها الغضب مأخذا عظيما: «إن أولئك القتلة قد اقترفوا إثما عظيما وأكثرهم لا يشعرون، وإنما حرضهم على هذا المنكر شيوخهم ورؤساؤهم، فإنك تجهلين أمورا أعلمها ولا أجهل شيئا تعلمينه!» وسكتت برهة وأسماء مطرقة وقد تحيرت كيف تجيب. فاستأنفت عائشة الحديث وقالت: «لقد وقع إلي أن أخي محمدا كان في عداد المغرورين»، ثم خفضت صوتها وقالت وهي تلقي يدها على الوسادة لتتكئ عليها: «ولكنه غير ملوم.»
فلما سمعت أسماء ذلك ثارت ثائرة حبها محمدا وهمت بأن تدرأ عنه التهمة، وخشيت أن يؤدي بها الدفاع إلى الكذب فلبثت صامتة، ونظرت إلى العجوز فرأتها ترتعش خوفا ورهبة. وظل الجميع برهة لا تفوه إحداهن بكلمة حتى عادت عائشة إلى الكلام، فنظرت إلى أسماء وقالت وهي تحاول إخفاء غضبها: «لا أنكر أن عثمان أخطأ في تصريفه أمور الخلافة، ولكنه خطأ لا يدعو إلى القتل.»
فأحبت أسماء أن تسمع رأي عائشة فيما ارتكبه عثمان من الخطأ فقالت: «هذا ما سمعته من أخيك محمد، ولكنه يرى أن خطأه أعظم من أن يغتفر.»
قالت وقد عاودها غضبها: «إن محمدا لا يعرف ما أعرفه، ولو جاءني الآن لجادلته وأقنعته بضلاله!» ولم تكد تتم كلامها حتى دخلت إحدى الجواري تقول: «إن بعض الأمراء بالباب.» فلما سمعت أسماء ذلك نظرت إلى عائشة فرأتها توقفت عن صرف الجارية، فأدركت أنها راغبة في مقابلة القادمين فنهضت واستأذنت في الانصراف إلى حجرتها فأذنت لها، فخرجت والعجوز في أثرها وكلتاهما صامتة تفكر فيما سمعته. •••
وأحست أسماء عقب خروجها بقشعريرة شديدة، فأوت إلى الفراش والبرداء تعمل في أحشائها، فتبعتها العجوز وجلست إلى جانبها وجست يدها فإذا هي باردة كالثلج، فدثرتها وأكثرت في غطائها وهي تنتفض بردا. فقلقت العجوز وسألتها عما بها فقالت: «أحس بارتخاء في أعضائي ورعدة في أحشائي.» قالت ذلك وأسنانها تصطك، فأرادت العجوز أن تخفف عنها فقالت لها: «لا بأس عليك، إن ما أصبت به من أثر التعب الذي قاسيناه في الطريق.»
وظلت العجوز تخفف عنها حتى خفت البرداء واحمر وجهها احمرارا شديدا، فجستها العجوز فإذا هي محمومة فخففت من دثارها وخرجت تستشير أهل الدار في علاجها، فأشارت عليها بعض النساء بعسل تشربه ممزوجا بالماء، فجاءتها بقدح من مزيجه فلم تتناول منه شيئا. فتقدمت إليها وقبلتها وتوسلت إليها أن تشرب العسل فلم تجبها، ثم ما لبثت أن رأت دموعها تهمي وهي تحاول إمساكها، فألحت عليها أن تشرب فازدادت أسماء بكاء وشهيقا وقد احمرت عيناها وذبلت أجفانها، واشتدت عليها الحمى اشتدادا عظيما.
فحارت العجوز في أمرها وحدثتها نفسها أن تنبئ أم المؤمنين بما حدث فتذكرت اشتغالها بمن قدم إليها من الأمراء، فلبثت بجانب الفراش تنظر إلى أسماء ولا تتكلم.
ثم سكتت أسماء وأغمضت عينيها كأن النعاس غلب عليها ففرحت العجوز لنومها، فتركتها وخرجت لعلها تلقى من تستشيره في علاجها، ولم تكد تخرج حتى سمعت أسماء تتكلم فظنتها تدعوها فأسرعت إليها، فإذا هي تهذي وقد انكشف الغطاء عنها وانحسر درعها وقميصها عن صدرها وانكمشت أكمامها لفرط تقلبها. فهمت العجوز بأن تغطيها وتصلح أثوابها فخافت أن توقظها، فدنت من الفراش لترفع الغطاء إلى صدرها فرأت الحجاب في عنقها ورسم الصليب على معصمها، فبغتت وتأملت في وجهها فراعها أن رأت لمحة من غير ملامح العرب الغرباء، وتفرست في رسم معصمها فإذا هو رسم الصليب وتحققت أن الحجاب من أحجبة النصارى فاستغربت الأمر، ثم تذكرت أن أسماء قلما كانت تبالي التحجب في حديثها مع محمد أو غيره، فقالت في نفسها: «لعلها كانت نصرانية وربيت بين النصارى في الشام.»
وكانت أسماء ساكنة استغرقت في النوم وقد أطبق جفناها وتوردت وجنتاها وأسرع تنفسها من الحمى، فكانت تلهث وفمها مفتوح فأزاحت العجوز الغطاء إلى صدرها خوف البرد، فسمعتها تهذي فأصغت لهذيانها فإذا هي تقول: «أماه! يا أماه! يا مريم! آه يا علي يا أبا الحسن، كيف ضاع السر؟! تعال يا حبيبي يا محمد! لا، لا، إذا كنت قد قتلت عثمان فابعد عني! لا، لا، بل تعال يا منيتي ورجائي! إن اسمك كان آخر ما نطقت به أمي! آه يا أماه! من هو أبي؟! أخبريني، قولي، أحي هو أم سبقك إلى العالم الآخر؟!» ثم خفضت صوتها وتلجلج لسانها فلم تعد تفهم العجوز شيئا منه، ثم سكتت سكوتا تاما واستغرقت في النوم، فجلست العجوز بالقرب من الفراش وهي تهم بأن تجسها لتتحقق الحمى، وخافت أن توقظها فعاذت بالصمت تفكر فيما سمعت منها وتعجب لجهلها أباها.
Halaman tidak diketahui