قال: «إنه خرج في الغروب إلى المسجد، وقد مضت صلاة الغروب وصلاة العشاء ولم يعد، فهل تذهب معي للبحث عنه هناك؟»
قالت: «نعم، هلم بنا.»
ثم انطلقا وكل منهما يريد الوصول إلى باب المسجد ليرى وجه صاحبه على الضوء لعله يعرفه، وكان الشاب أكثر رغبة في ذلك لأنه استغرب صوت أسماء ولم يتبين شيئا من وجهها أو ثيابها. أما هي فمشت تقود جوادها وراءها حتى بلغا الجامع، فإذا هو مزدحم بالناس بين جاث وواقف ولم يبق به موقف لطفل، وكلهم صامتون وقد تكاثفت أنفاسهم وانبعثت من باب الجامع حرارة ممتزجة بروائح أجسامهم وأثوابهم، حتى لقد يشعر المار بالازدحام وإن لم ير الناس. فلما وصل الرفيقان إلى الباب واستنارا بمصابيح الجامع نظر كل منهما إلى زميله، فرأت أسماء رفيقها رجلا حسن اللباس يظهر من حاله أنه من الصحابة أو بعض أولادهم، أما هو فلم ير غير اللثام فاستغرب تلثمها ومنعه الحياء من التحري.
الفصل الثاني
عثمان بن عفان
وهمت أسماء بالدخول إلى الجامع فامتنع عليها لكثرة الناس وهيبة الاجتماع، فوقفت بالباب وهي على مثل الجمر، ووقف صاحبها إلى جانبها فارتاحت لما آنسته من رقة شعوره، وعلمت أن الدخول إلى علي يستحيل إذ ذاك. فلما دعاها إلى الاستراحة على البطحاء، وهي مقاعد من الحجر أو الخشب أنشأها عمر بن الخطاب خارج الجامع يجلس عليها الناس للاستراحة أو المحادثة أو المناشدة؛ لم تستطع أسماء جلوسا لعظم قلقها، ولكنها التمست مكانا تربط فرسها فيه إذا اضطرت لدخول الجامع، فأمر رفيقها غلاما ممن يلتقطون النوى في أسواق المدينة وهم كثيرون أن يمسك الفرس، فأمسكه وسار به إلى مرابط الخيل بين الأشجار هناك.
أما أسماء فنظرت إلى صدر المسجد، فرأت على منبره رجلا ربعة ليس بالطويل ولا القصير، حسن الوجه لولا ما عليه من أثر الجدري، كبير اللحية عظيمها، وقد خضبها بالحناء، أسمر اللون، أصلع الرأس، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، وكان واقفا على المنبر وقد توكأ على سيف وأجال نظره في الحضور وهم بالكلام . فنظرت أسماء إلى رفيقها مستفهمة، فقال: «هذا عثمان بن عفان يخطب في الناس.»
فقالت: «لعل هذا الجمع من أهل المدينة؟» قال: «كلا، هم وفود أهل مصر والبصرة والكوفة، وقد جاءوا يشكون عثمان ويتذمرون من أعماله، وقد شكوه من قبل هذا إلى علي بن أبي طالب فأنبه علي، فدعاهم إلى المسجد ليخطب فيهم، وأظنه سيلتمس لنفسه عذرا، فلنسمع ما يقوله.»
فنظرت أسماء إلى الخليفة وعيناها لا تقفان عليه لتضعضع حواسها، فرأت بجانبه رجلا عرفت أنه مروان فقالت في نفسها: «بئس الشاب هو! لقد جاء إلى ابن عمه ونسي المهمة التي جاء فيها.» وجالت بنظرها في الجمع متفرسة لعلها ترى عليا، غير أنها لم تكن تعرفه فقالت لرفيقها: «ألا ترى عليا بين الناس؟» قال: «أظنني رأيته، نعم، أراه جالسا بقرب المنبر وقد أطرق يفكر.» فنظرت إليه فإذا هو فوق الربعة، ضخم العضل، جميل الخلقة، وقد خطه الشيب فلم يخضب شعره. وآنست منه على شدة هواجسه ابتساما ظاهرا في وجهه، فشعرت عند رؤيته بارتياح واستأنست بطلعته وحدثتها نفسها أن تخترق الجماهير إليه فأوقفها الحياء، ولبثت تنتظر انتهاء الخطيب من خطابه وهي في قلق شديد.
وانتصب عثمان ويمناه على السيف وهي ترتعش لعظم تأثره، ثم مسح لحيته بيساره ومشط شعرها بأصابعه والاضطراب ظاهر عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على الرسول ثم قال: «يا أهل الأمصار، قد جئتم من البلاد البعيدة تطالبونني بأمور لم أكن أنا الذي ارتكبتها وحدي، فإن صاحبي اللذين توليا قبلي (يريد أبا بكر وعمر) قد ظلما أنفسهما، وإن رسول الله
Halaman tidak diketahui