وما فرغ الشيخ من عبارته حتى أخذ أولئك البشر المتوحشون ينهالون عليهما من كل ناحية ومكان، وهم في صورة القردة، ولهم خفة المردة. فلما رآهم الفتى تفزع لرؤيتهم، واهتز إشفاقا من كثرتهم، فالتفت إليه الشيخ قائلا: تشجع يا «هاموس»، وألصق ظهرك بظهري، ثم در معي كيفما أدور، فإنني منيمهم جميعا في لحظة، فأسند الفتى ظهره إلى ظهر الشيخ وجعل هذا يدور، ويكثر الصراخ كالليث الزءور، وكلما وقعت عيناه على جماعة من ذلك الإنسان المتوحش راحت نائمة، وهي قائمة، كأنما سمرت في الهوى، أو كأن بها سحرا، فلم تكن لحظة حتى صار أكثرهم في أسر الشيخ وفتاه، وفر الباقون مختفين في جوانب الغاب وزواياه.
وبعد ذلك عمد الشيخ لثلاثة من الأسرى، فأطار أعناقهم بضربة واحدة من سيفه المسلول، ثم التفت إلى الفتى يقول: الآن ينزل ساكن السماء يا «هاموس». قال: وما ينزله يا مولاي؟ قال: رؤية الدماء؛ دماء البشر، فإن له بها من الكلف والغرام، فوق ما بالفراش من النار ذات الضرام، وفي الحقيقة ما أتم الشيخ هذا الكلام، حتى نزل طائر صغير، كأضأل العصافير، أسود بإنارة، كفحم الحجارة، فجعل يدنو طورا وينأى تارة، ثم غمس في الدماء منقاره، فشرب ما شرب، حتى انتشى وطرب، فتقدم الشيخ عندئذ نحوه، وهو لا يكاد يملك من السرور خطوه، فقبض على الأسود متلبسا بالنشوة، وكان قد أعد لذلك سلسلة من الذهب طويلة خفيفة، محكمة ظريفة، فشد بأحد طرفيها لحم ساعده، وقيد بالآخر الببغاء، ثم حمله على كفه، وجعل يتأمله ويخاطبه قائلا:
أهلا بعاشق الدماء، المغني عن استشارة السماء، الطويل البقاء، المنبئ بالرياح والأنواء، المشير أبدا نحو المشرق بجبهته السوداء، الزاجر عن نزول الدأماء، إذا كان في ركوبها بلاء، الحافظ الكلم المعيدها لمن شاء، متى شاء، المبشر بالضحك، المنذر بالبكاء، الناتف ريشه إذا أحس من أجل حامله الانقضاء.
الفصل الثالث
الاستعداد في الهند لاستقدام الأميرة
لقد مضى على إقامة الأميرة في الجزيرة ستة أعوام وبعض عام، قضاها الملك في أسر القلق والأوهام، لا يعرف الراحة ولا يهنأ المنام، من الفكر فيها وفي أحوال ذلك الغرام، وتوقعا أن يتم بأخذها لعدوه المرام.
وكأنما كان شنو يتمثل مكان الأسى من الوالد، ويرى جيئة الهوادس، وذهابها في فؤاده المشوق الواجد، فلم يكن يدع سفينة الزاد تعود إلا ويحملها من البريد إلى الملك ما يخفف من كربه، ويعيد السكينة إلى ربوعها من قلبه، حتى ولت السنة السادسة، وهلت السابعة، فبلغ مسامع الملك أن رجلين غريبين متنكري الزي مريبين، قد رئيا على نقط من المملكة، ثم في العاصمة؛ حيث كانا يجتمعان بأحد بحارة الأساطيل، فلما بلغ «دهنش» الخبر قام له وقعد، وأحدق به الوسواس بعدما كان ابتعد، فأقام حكومة العاصمة وسائر قوات الأقاليم في طلب ذينك الرجلين، طلب قوي قادر مطلق في الأحكام، حتى تفرغ الأهالي وضاقت البلاد بالعيون والأرصاد بدون أن يقبض على الغريبين، أو يبلغ «دهنش» منهما المراد، فتحول عندئذ غضب الملك كله نحو ذلك البحار المسكين، فلم يغادر صنفا من العذاب إلا عذبه به، فلما فتش فيه وجد نحو ألف حلقة ذهبية من العملة المصرية، وعدد كثير من أواني النبيذ بين ملأى وفوارغ، وكانت كذلك من صناعة المصريين، فجلت عندئذ التهمة وهالت وبولغ للرجل في التعذيب، ولكنه كان خائنا شريفا، فلم يزل مصرا على الجحود حتى قتل كخائن مرتش، وهكذا اشتريت ذمة الإنسان في الزمان الأول بالمال محمولا من أحد طرفي الأرض إلى الطرف الآخر.
إلا أن بريد الجزيرة كان لا يزال يرد كالعادة منبئا باستمرار استقامة الأحوال هنالك، ومبشرا بمصير صحة الأميرة من حسن إلى أحسن، فكان الملك يطمئن بهذه الأخبار بعض الاطمئنان، ويتكل فيما سوى ذلك على السفن العديدة التي كان بادر من تخوفه فبثها في مداخل المحيط ومخارجه، لتحمي الموارد والمصادر، وتكون بالمرصاد لكل فلك عابر، قادم أو مسافر. ثم على مستيقظة الجنود الساهرة، كذلك للمراقبة على الحدود بين مملكته وبين الهند الغربية من جهة، وبين الأولى والصين من جهة أخرى، حتى إذا كان ما بعد النصف من العام السابع موعد الإياب، وأوان تشريف ذاك الركاب، أسرع الملك يستعد لاستقدام الأميرة، ويهتم لها بأمر ترحيلها من الجزيرة ، فاختار لهذا الشأن الجليل، أسطولا من أحسن الأساطيل، ثم انتقى له أخاير الرجال، من بين صفوف البحارة الأبطال، وشحنه بعد ذلك بالذخائر والمهمات، وما يستلزمه حسن الدفاع من العدد والآلات، حتى تم أمره واكتمل، وصار صالحا للعمل، ولم يبق غير انتخاب القائد الذي يحقق الأمل.
وكان لعذراء الهند قريب من خيرة أمراء العائلة يدعى ثرثر، وكان ابن أحد الملوك المستظلين تحت لواء «دهنش»، وكان ثرثر يحب الأميرة حبا شديدا، ويؤانس من والدها الملك الارتياح لمصاهرته، ويطمع منه بالقبول التام إن هو خطبها إليه، نظرا من جهة لما كان له من المكانة الخاصة في الحب عند الملك، ومن جهة أخرى لكون نسبه العالي يرشحه لهذا الشرف الرفيع، ويجعل له التفضيل على الجميع.
وكان حب ثرثر لعذراء الهند صادقا ثابتا جنونيا إلى حد أنه لم يتأثر مثقال ذرة بسوء حال الفتاة، ولا بما شاع وذاع وطرق جميع الأسماع من غرامها الهوسي ب «آشيم»، وغضب الملك عليها بسبب ذلك، ونفيه إياها إلى مكان بعيد، كما أنه لم يسله بعد الأميرة عن عينه كل هاتيك السنين بجزيرة العذارى.
Halaman tidak diketahui