Kebijaksanaan Siddiq
عبقرية الصديق
Genre-genre
تقديم
1 - اسم وصفة
2 - الصديق الأول والخليفة الأول
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - نموذجان
6 - إسلامه
7 - الصديق والدولة الإسلامية
8 - الصديق والحكومة العصرية
9 - الصديق والنبي وصحبه
Halaman tidak diketahui
10 - ثقافته
11 - الصديق في بيته
12 - صورة مجملة
تقديم
1 - اسم وصفة
2 - الصديق الأول والخليفة الأول
3 - صفاته
4 - مفتاح شخصيته
5 - نموذجان
6 - إسلامه
Halaman tidak diketahui
7 - الصديق والدولة الإسلامية
8 - الصديق والحكومة العصرية
9 - الصديق والنبي وصحبه
10 - ثقافته
11 - الصديق في بيته
12 - صورة مجملة
عبقرية الصديق
عبقرية الصديق
تأليف
عباس محمود العقاد
Halaman tidak diketahui
تقديم
في تقديم كتابي هذا عن أبي بكر الصديق، أقول ما قلته في «عبقرية محمد» و«عبقرية عمر» وكل كتاب من هذا القبيل، وفحواه أنني لا أكتب ترجمة للصديق رضي الله عنه، ولا أكتب تاريخا لخلافته وحوادث عصره، ولا أعنى بالوقائع من حيث هي وقائع، ولا بالأخبار من حيث هي أخبار، فهذه موضوعات لم أقصدها، ولم أذكر في عناوين الكتب ما يعد القارئ بها ويوجه استطلاعه إليها، ولكنما قصدت أن أرسم للصديق صورة نفسية، تعرفنا به وتجلو لنا خلائقه وبواعث أعماله، كما تجلو الصورة ملامح من تراه بالعين. فلا تعنينا الوقائع والأخبار إلا بمقدار ما تؤدي أداءها في هذا المقصد الذي لا مقصد لنا غيره، وهي قد تكبر أو تصغر، فلا يهمنا منها الكبر أو الصغر إلا بذلك المقدار، ولعل حادثا صغيرا يستحق منا التقديم على أكبر الحوادث إذا كانت فيه دلالة نفسية أكبر من دلالته، ولمحة مصورة أظهر من لمحته. بل لعل كلمة من الكلمات الموجزة التي تجيء عرضا في بعض المناسبات تتقدم لهذا السبب على الحوادث كبيرها وصغيرها في مقياس التاريخ.
ومن همنا أن تكون الصورة صادقة كل الصدق في جملتها وتفصيلها ... فليس من غرضنا التجميل الذي يخرج بالصورة عن حقيقتها، ولسنا نريد أن يطلع القارئ على تلك الصورة، فلا يعرفها ولا يعرف أبا بكر منها، ولكن تجميل الصورة شيء، وتوقير صاحبها شيء آخر، فإنك إذا صورت أبا بكر ورفعت صورته مكانا عليا لم تكن قد أضفت إليه جمالا إلي جماله أو غيرت ملامحه النفسية بحيث تخفى على من يعرفها، فهذا هو التوقير الذي يخل بالصورة ولا يعاب على المصور، وليس هو بالتجميل المصطنع الذي يضل الناظر عن الحقيقة.
فكل فضيلة أثبتناها لأبي بكر في هذه الصفحات فهي فضيلته التي لا نزاع فيها، وكل عمل استطاعه ووصفناه بقدرته فقد استطاعه بغير جدال، وما من عمل لم يعمله قلنا إنه قد عمله، ولا من قدرة لم تظهر منه جعلناها من صنوف قدرته، ثم يتوسمه القارئ بعد هذا فيرى صورة مميزة بين صور العظماء من أمثاله، فهو محمود موقر، وعمر بن الخطاب في صورته محمود موقر، ولكنهما مع ذلك لا يتشابهان ولا يتراءى أحدهما في ملامح الآخر، وهذا قصاراك من صدق الصورة في تمييز الرجل بين نظرائه، وفي تمثيله بما فيه وما ليس فيه.
إنك حين تعدد ثروة رجل فتقول: إنه صاحب عشرة بيوت، لا يلزمك بعد ذلك أن تقول: ولكنه ليس بصاحب أرض زراعية ولا أوراق مالية ولا معامل صناعية ولا مرتبات حكومية، وإذا أنت سكت عن هذا قاصدا أو غير قاصد لم يجز لأحد أن يلومك أو يظن بك تعمد الإخفاء والسكوت، فحسبك أنك ذكرت ثروته الصحيحة ولم تضف إليه ما ليس من ماله لتكون قد أعلمت من يريد العلم بثروته غاية ما ينبغي أن يعلم.
وكذلك الشأن في ثروات النفوس حين يحصيها المقدرون: تصدق إن ذكرت له ما يملك، ولا يفوتك الصدق إن فاتك أن تحصي كل ما ليس له بملك، فليس هذا بغرض من أغراض الإحصاء أو التعريف.
ومذهبنا الذي نتوخاه في الكتابة عن العظماء الذين حسنت نياتهم في خدمة الإنسان أن نوفيهم حقهم من التوقير، وأن نرفع صورهم إلى مكان التجلة، وإن لم يمنعنا هذا أن نصدقهم الوصف والتصوير.
عبرت عن هذا المذهب شعرا قبل ثلاثين سنة فقلت من أبيات:
لا تلح ذا بأس وذا همة
على ذنوب العصبة الغلب
Halaman tidak diketahui
فليس مقياسك مقياسهم
ولا هم مثلك في المأرب
انظر إلى ما خلفوا بعدهم
من المعالي ثم لم واعتب
من ركب الهائل من أمره
فعذره في ذلك المركب
ونحسب هذا المذهب في زماننا هذا أوجب مما كان في الأزمان الغابرة؛ لأن الأسباب التي تغص من وقار العظمة لم تزل تتكاثر منذ القرن الثامن عشر إلى الآن، وهي مما يحدث عفوا في بعض الأحيان، ومما يأتي قصدا في أحيان أخرى، وقد تفيد الإشارة إليها في اتقائها إذا كان إلى اتقائها سبيل.
بدأت هذه الأسباب بفهم سيئ للمنازعات التي شجرت بين رجال العلم ورجال الدين منذ النهضة العلمية الحديثة. فوقر في بعض الأذهان أن العلم الحديث قد ألغى ما قبله من جهود المصلحين وطلاب المعرفة الإلهية والدنيوية وخلط أناس بين دعاة الأديان الذين أخلصوا العقيدة في الإصلاح، وبين رجال الأديان الذين استغلوا العقائد، وتعمدوا إنكار الحقائق، ووقفوا بعنادهم ولجاجتهم عقبة في طريق التقدم والتهذيب.
فالمصلحون من عظماء الأديان أهل لكل تعظيم واعتراف بالجميل، لا يعيبهم أنهم سبقوا عصر العلم الحديث، بل يزكيهم ذلك، ويضاعف حقهم في الثناء وعرفان الجميل، ويدل على أن الحاجة إليهم كانت أمس وألزم، وأنهم كانوا في خدمتهم الإنسانية أقدر وأعظم، مع ما هو مفهوم من الفارق بين حاجة الناس إلى الدين وحاجتهم إلى العلوم. فهذه حاجة ذهنية وتلك حاجة حيوية أو روحية لا تغني فيها علوم العلماء.
ثم جاءت الديمقراطية وأساء بعض الناس فهمها، كما أساءوا فهم النزاع بين العلم والدين، فظنوا أن حرية الصغير تجعله في صف الكبير، وأن المساواة القانونية تلغي الفوارق الطبيعية، وأن الثورة على الرؤساء المستبدين معناها الثورة على كل ذي مكانة من العظماء، وهو وهم ظاهر البطلان ولكنه قد سرى مسراه إلى الأذهان، فكثر التطاول على كل عظمة إنسانية، وفشت بدعة الاستخفاف والزراية حتى أوشك التوقير لمن يستحق التوقير أن يعاب.
Halaman tidak diketahui
ثم جاءت الشيوعية وهي قائمة على أن الأبطال صنائع المجتمع وليسوا بأصحاب الفضل عليه، وأن تعظيم الأبطال الغابرين يصرف الناس عن عيوب النظم الاجتماعية التي أنشأت أولئك الأبطال فخدموها قاصدين مدبرين أو على غير قصد منهم وتدبير، وأفرط الشيوعيون في تلويث كل عظمة يؤدي توقيرها إلى نقض مذهبهم ومخالفة دعوتهم، حتى بلغ من سخفهم في هذا أنهم غيروا أبطال الروايات في مسرحيات شكسبير وأمثاله فعرضوا «هملت» على المسرح لئيما ماكرا سيئ النية على خلاف ما صوره الشاعر؛ لأن تصوير أمير من أمراء القرون الوسطى في صورة حسنة يخل بما قرروه عن النظم الاجتماعية والسياسية في تلك القرون.
وتكاثرت على هذا النحو أسباب الغض من العظماء حتى صح عندنا أن العظمة في حاجة إلى ما يسمى «برد الاعتبار» في لغة القانون، فإن الإنسانية لا تعرف حقا من الحقوق إن لم تعرف حق عظمائها، وإن الإنسانية كلها ليست بشيء إن كانت العظمة الإنسانية في قديمها أو حديثها ليست بشيء.
ومن ثم مذهبنا في توقير العظمة مع التفرقة بين التوقير المحمود والتجميل المصطنع الذي يعيب المصور ويضل الناظر إلى الصورة. فليس لنا أن نثبت جمالا غير ثابت، ولكن لنا - بل علينا - متى أثبتنا الجمال في مكانه أن نرفع الصورة إلى مقام التوقير.
قال زميلنا الباحث الفاضل الأستاذ أحمد أمين من نقده لكتاب الدكتور هيكل (باشا) في الصديق وكتابي في «عبقرية عمر»: ... بقيت مسألة هامة كثيرا ما اختلفت وجهة نظر الكتاب فيها، وهي أن العظيم مهما عظم له خطآت، وإلا ما كان إنسانا، والعصمة لله وحده. فهل واجب المترجم له أن يعرض لكل ذلك في تفصيل، فيذكر كل ما له ويشيد بذكره، ويذكر خطآته وينقدها، ويعلم بذلك درسا في نواحي مجده، ودرسا آخر في مواضع خطئه، أو واجبه فقط تجلية نواحي العظمة والتأويل والدفاع الدائم عن نواحي الخطأ؟ أنا أرى أن الرأي الأول أوجب، متأسيا بأبي بكر وعمر نفسيهما، والمؤلفان الفاضلان إلى الرأي الثاني أميل.
والواقع أننا إلى الرأي الثاني أميل كما قال زميلنا الأستاذ، ولكنه الميل الذي نحده بما قدمناه من حدود، ونحتج له بما بيناه من أسباب.
ويخيل إلينا أن الأستاذ نفسه يستطيب هذا الميل حين قال في صدر مقاله عن الكتابين: ... إن الأوروبيين قد وجدوا من علمائهم من يشيد بعظمائهم ويستقصي نواحي مجدهم، بل قد دعتهم العصبية أحيانا أن يتزيدوا في نواحي هذه العظمة، ويعملوا الخيال في تبرير العيب وتكميل النقص تحميسا للنفس وإثارة لطلب الكمال. أما نحن فقد كان بيننا وبين عظمائنا سدود وحواجز حالت بين شبابنا وجمهورنا والاستفادة منهم ...
فهذه السدود كثيرة في الشرق، كثيرة في العصر الحاضر حيث كان، وهي التي تجيز لنا - بل تفرض علينا - أن نوفي العظماء حقهم من التوقير، وأن نصورهم كما خلقهم الله، ثم علينا أن نرفع الصورة حيث شئنا بعد الصدق في التصوير.
عباس محمود العقاد
الفصل الأول
اسم وصفة
Halaman tidak diketahui
عرف الخليفة الأول في التاريخ بأسماء كثيرة: أشهرها أبو بكر والصديق، ويليهما في الشهرة عتيق وعبد الله.
وقيل: إنه عرف بهذه الأسماء أو الألقاب في الإسلام والجاهلية على السواء.
عرف في الجاهلية بلقب الصديق؛ لأنه كان يتولى أمر الديات وينوب فيها عن قريش، فما تولاه من هذه الديات صدقته قريش فيه وقبلته، وما تولاه غيره خذلته وترددت في قبوله وإمضائه.
وعرف بالعتيق لجمال وجهه، من العتاقة وهي الجودة في كل شيء، وقيل: بل من العتق، لأن أمه لم يكن يعيش لها ولد؛ فاستقبلت به الكعبة، وقالت: اللهم إن هذا عتيقك من النار فهبه لي. فعاش فعرف باسم عتيق ... وقيل غير ذلك: إنه أحد ثلاثة أبناء، هم عتيق ومعتق ومعيتيق، سموا بذلك تفاؤلا بالعيش والعتق من الموت.
وعرف كما قيل في بعض الروايات باسم عبد الكعبة في الجاهلية، ثم عبد الله في الإسلام.
وسمي في الإسلام بالصديق؛ لأنه صدق النبي
صلى الله عليه وسلم
في حديث الإسراء، وبالعتيق؛ لأنه عليه السلام بشره بالعتق من النار.
ومن الجائز انه عرف بهذه الألقاب على محملها في الجاهلية ومحملها في الإسلام، ففي حياته وسيرته قبل الإسلام وبعده ما يحقق هذه التسمية أو هذا التلقيب.
ولد للسنة الثانية أو الثالثة من عام الفيل، فهو أصغر من النبي
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم
بنحو سنتين، وهو عبد الله بن عثمان الذي عرف باسم أبي قحافة، ويلتقي نسبه ونسب النبي
صلى الله عليه وسلم
عند مرة بن كعب، بعد ستة آباء، وكلا أبويه من بني تيم، وهم قوم اشتهر رجالهم بالدماثة والأدب، واشتهرت نساؤهم بالدل والحظوة، وقيل إن بنات تيم أدل النساء وأحظاهن عند الأزواج. وربما كان مرجع ذلك إلى طول عهد القبيلة بحياة المدينة وأشغالها، وأن اشتغالها بالتجارة كان يقوم على المودة وحسن المعاملة، ولا يقوم على بسطة النفوذ وصولة الوفر والغلبة، فبنو أمية - مثلا - كانوا يتجرون وكان زعيمهم أبو سفيان يرسل القوافل بين الحجاز والشام، ولكنها قوافل أشبه بالحملات والبعوث، معولهم فيها على الوفر والوفرة، وليست كذلك تجارة أبي بكر وإخوانه من أبناء البطون القرشية التي لها شرف النسب في غير مكاثرة بالعدد والعدة، ومغالبة بالصولة ودهاء القوة، كمغالبة الأمويين.
ومهما يكن من أثر المعاملة الودية وآداب الأسرة والمدنية في بني تيم، فهذه الآداب واضحة في أسرة الصديق رضي الله عنه أجمل وضوح، لم تذكر لنا قط أسرة كانت في عصره على مودة أجمل من المودة التي اتصلت بينه وبين أبيه وأمه وأبنائه، مدى الحياة. وقد كان له ابن حارب في صفوف المشركين، وأوشك أن يكون بينه وبين أبيه قتال، ولكننا إذا تجاوزنا هذه الفلتة من فلتات السن رجعنا إلى أبوة لا عقوق فيها بعد اهتداء ذلك الابن إلى الإسلام، كما اهتدى إليه سائر ذويه.
عاش أبو قحافة حتى رأى ابنه خليفة يرفع صوته على أناس لم يكن في مكة أرفع منهم صوتا وأعظم خطرا، وكان مكفوف البصر على باب داره بمكة يوم أقبل أبو بكر إليها معتمرا بعد مبايعته بالخلافة، فقيل له: هذا ابنك؛ فنهض يتلقاه، ورآه ابنه يهم بالنهوض فعجل نازلا عن راحلته وهي واقفة قبل أن ينيخها، وجعل يقول: يا أبت لا تقم! ثم لاقاه والتزمه وقبل بين عينيه، ولم ينتظر - وهو في نحو الستين - أن ينيخ راحلته لينزل منها، مخافة على أبيه من مشقة النهوض.
ودعا الخليفة بأبي سفيان لأمر أنكره فأخذته الحدة التي كانت تراجعه في بعض ثورات نفسه، وأقبل يصيح على أبي سفيان وهو يلين له ويسترضيه، فسأل أبو قحافة قائده: على من يصيح ابني؟ فقال: على أبي سفيان ! ... فدنا منه يقول له وفي كلامه من الغبطة أكثر مما فيه من الإنكار، وفيه من دهاء الطيبة أكثر مما فيه من سهو الشيخوخة: أعلى أبي سفيان تصيح وترفع صوتك يا عتيق؟! لقد عدوت طورك وجزت مقدارك!
فابتسم أبو بكر والصحابة، وقال لأبيه المنكر في رضاه الراضي في إنكاره: يا أبت إن الله رفع بالإسلام قوما وأذل به آخرين.
وهذه الطيبة التي لا تخلو من دهائها هي التي ظهرت من هذا الأب الصالح، يوم نعوا إليه رسول الله فقال: أمر جلل. وسأل: ومن ولي الأمر بعده؟ قالوا: ابنك؛ فعاد يسأل: فهل رضيت بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة؟ قالوا: نعم ... قال: لا مانع لما أعطى الله، ولا معطي لما منع!
بل هذه الطيبة التي لا تخلو من دهائها هي التي ظهرت منه حين هاجر ابنه مع النبي
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم
فأقبل على أحفاده يسألهم: ما ترك لكم بعد هجرته من المال؟ وهي التي ظهرت منه حين ذهب ابنه ينفق من ماله لإعتاق الأرقاء الذين عذبهم المشركون فكان يقول: لو أنك إذ فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك؟ ويقول له ابنه: يا أبت إني أريد ما عند الله.
ثم عاش الأب الصالح حتى قبض ابنه العظيم فرد ميراثه منه إلى أحفاده وسأل حين بلغته وفاته وهو يقول: رزء جلل، رزء جلل. فمن ولي الأمر بعده؟ قالوا: عمر؛ قال: صاحبه ... يعني صاحب الأمر أو صاحب الصديق، في إيجاز كاف كإيجاز ابنه العظيم.
كثير مما في أبي بكر من هذا الأب الصالح: طيبة في يقظة في استقامة، ويزيد عليه ابنه في كل وصف حميد.
الفصل الثاني
الصديق الأول والخليفة الأول
في رواية من أشهر الروايات عن مرض النبي
صلى الله عليه وسلم
أن مؤذنه بلالا جاءه يوما، وقد اشتد به المرض فقال عليه السلام: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر ؟
Halaman tidak diketahui
فقال عليه السلام مرة أخرى: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
فعادت عائشة تقول لحفصة: قولي له: إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس. فلو أمرت عمر؟
فأعادت حفصة ما قالته لها عائشة.
وضجر عليه السلام من هذه المراجعة؛ فقال: إنكن أنتن صواحب يوسف. ثم قال لثالث مرة: مروا أبا بكر فليصل بالناس.
وروى عبد الله بن زمعة أنه خرج من عند النبي، فإذا عمر في المسجد وأبو بكر غائب. فقال: يا عمر. قم فصل بالناس. فتقدم فكبر، وكان رجلا مجهرا، فلما سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صوته سأل: فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون، يأبى الله ذلك والمسلمون.
ولام عمر عبد الله بن زمعة قائلا: ويحك! ما صنعت بي يا ابن زمعة؟ والله ما ظننت حين أمرتني إلا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمرك بذلك. ولولا ذلك ما صليت بالناس.
Halaman tidak diketahui
قال ابن زمعة: والله ما أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بشيء، ولكني حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.
وموضع العجب في هذه الرواية تردد السيدة عائشة رضي الله عنها في تبليغ أمر النبي بإقامة أبيها مقامه في الصلاة، وقد تكرر الأمر أكثر من مرة.
فهذا التردد عجيب من وجوه: عجيب أن تتردد في تبليغ أمر محمد عليه السلام، وهو الزوج المحبوب والنبي المطاع.
وعجيب أن تتردد في تبليغه، وهو تشريف لأبيها بمقام كريم تتطاول إليه الرقاب.
ويزيده عجبا أن يحدث في شدة المرض والنبي مجهد يطلب الراحة، وهي أشد نسائه سهرا عليه في مرضه، وأرعاهم له بما يريحه، ويخفف الجهد عنه.
نعم، إن عائشة رضي الله عنها كانت أكثر الناس دالة على النبي وأجرأهم على مراجعته، والتلطف في إبلاغه ما يتهيب القوم أن يبلغوه. فلئن كانت هي أولى الناس أن تطيعه وتبلغ أمره، لقد كانت كذلك تعلم من مكانتها عنده ما يبيح لها أن تراجعه وتأمن غضبه، لدالتها عليه وثقته من مضمر حبها له وامتثالها لأمره.
إلا أنها قد بلغت مكان الدالة عند رسول الله بما لها من صفات كثيرة غير الصباحة والجمال، وأول تلك الصفات فرط الذكاء ولطافة الحس وحسن التقدير.
وخليق بمن كانت في مثل ذكائها ولطافة حسها وحسن تقديرها أن تفطن إلى الجد في ذلك الموقف العصيب، وفي ذلك البلاغ الخطير.
Halaman tidak diketahui
وهيهات أن تتردد يومئذ عن دلال في غير موضعه، ولأسباب غير السبب الذي يمكن أن يوحي إليها ذلك التردد، ولا بد له من سبب عظيم.
ولقد كان له سبب عظيم.
بل هو أعظم الأسباب التي يمكن أن توحي إليها ذلك التردد، ولولاه لما أقدمت عليه.
وما نحسب أن شيئا حفظته الروايات التاريخية لنا عن ذكاء السيدة عائشة يدل على قوة ذلك الذكاء، كما دل عليه ترددها في ذلك الموقف العصيب.
يكفي أن نستحضر اليوم ما قيل عن الخلافة بعد النبي عليه السلام لنعلم مبلغ ذلك الذكاء العجيب في مقتبل الشباب، ونكبر ذلك النظر الثاقب إلى أبعد العواقب، ونلتمس لها العذر الذي يجمل بامرأة أحبها محمد ذلك الحب، وأعزها ذلك الإعزاز.
فقد قيل في الخلافة بعد النبي كثير: قيل فيها ما يخطر على بال الأكثرين، وما يخطر على بال الأقلين، وما ليس يخطر على بال أحد إلا أن يجمح به التعنت والاعتساف أغرب جماح.
قيل: إن وصول الخلافة إلى أبي بكر إنما كان مؤامرة بين عائشة وأبيها!
وقيل: إنه كان مؤامرة بين رجال ثلاثة أعانتهم عائشة على ما تآمروا فيه، بما كان لها من الحظوة عند رسول الله، وكان هؤلاء الرجال على زعم أولئك القائلين أبا بكر وعمر وأبا عبيدة بن الجراح، وهم الذين أسرعوا - من المهاجرين - إلى سقيفة بني ساعدة ليدركوا الأنصار قبل أن يتفقوا على اختيار أمير أو خليفة لرسول الله.
وقيل: إن هؤلاء الرجال الثلاثة اتفقوا على تعاقب الحكم واحدا بعد واحد: أبو بكر فعمر فأبو عبيدة؛ ولهذا قال عمر حين حضرته الوفاة: لو كان أبو عبيدة حيا لعهدت إليه؛ لأنه أمين الأمة، كما قال فيه رسول الله، وهذا زعم روجه بعض المستشرقين ولى بين القراء الأوروبيين كثيرا من القبول؛ لأنه شبيه بما عهدوه في أمثال هذه المواقف من أحاديث التدبير والتمهيد وروايات التواطؤ والائتمار.
فالسيدة عائشة مسعودة الحظ لا مراء؛ لأنها لم تخالف محمدا قط في أمر خطير، وحين خالفته أو ترددت في تبليغ كلامه في أمر من أخطر الأمور، كان هذا التردد أدل على مكانتها وفضلها وعلى استحقاقها لمنزلة الإيثار في ذلك القلب العظيم.
Halaman tidak diketahui
فهي قد ترددت لتبرئ نفسها من القالة، وتبرئ ذلك الموقف الخطير من المظنة، وتبرئ الخلافة من أسباب الادعاء، وقد يكون فيها إضعاف وإيذاء.
وأشهدت على نفسها أولى الناس بالشهادة في ذلك الموقف الخطير حفصة بنت عمر رضي الله عنهما.
فإذا علمت حفصة أن عائشة راجعت رسول الله مرتين في تبليغ الأمر إلى أبيها أن يصلي بالناس، فقد علمت ذلك من هي أحق بعلمه من سائر أمهات المسلمين، إذ كان عمر رضي الله عنه أحد اثنين في حق الخلافة لا يذكر أحدهما إلا ذكر الآخر، كما ظهر ذلك من واقع الأمور، أو كما ظهر من قول عبد الله بن زمعة لعمر: «حين لم أر أبا بكر رأيتك أحق من حضر بالصلاة بالناس.»
فتردد عائشة في ذلك الموقف الخطير لم يضر بل نفع، وكان أنفع من إسراعها بالتبليغ، وأول ما نفع به أنه أظهر رغبة النبي إظهارا لا مجال للظنة فيه، فكان ذلك من أدعى دواعي الاتفاق على الاختيار وقطع السبيل على الفتنة والشقاق.
نعم إن رواية من الروايات تزعم لنا أن السيدة عائشة رضي الله عنها ترددت في التبليغ؛ لأنها أشفقت أن يتشاءم الناس برؤية أبيها في مقام يذكرهم بالخطر على أحب الناس إليهم في ذلك المقام، وتلك سانحة يجوز أن تسنح لها وهي أشد الناس إحساسا بذلك التشاؤم ووقعه في نفوس المسلمين. ولكننا إذا سلمنا أنها رضي الله عنها قد تعمدت الإبطاء في التبليغ، فالسبب الذي أومأنا إليه آنفا أولى وأليق بالمعهود من ذكائها وخلقها الكريم؛ لأنها لا تجهد النبي في مرضه ولا تفوت على أبيها شرف الخلافة حذرا من التشاؤم وحده، ثم هي لا تدعو حفصة إلى تعريض عمر لموقف تصون عنه أباها. فإن كان تعمد للإبطاء في التبليغ فذلك السبب الذي أومأنا إليه آنفا أحق الأسباب أن يرجح على غيره لتفسير ذلك الإبطاء، فهو أدعى أن يبطل به العجب ولا يمتنع مع هذا أن يقترن بغيره من الأسباب. •••
ويقل العجب من تردد السيدة عائشة كلما زاد العجب من تلك الفروض والأقاويل التي خاض فيها من خاض عن «مؤامرة» الخلافة المزعومة، وليس لها سند من التاريخ، ولا من التفكير القويم، ولا من المعهود في أخلاق الرجال والنساء الذين عزيت إليهم تلك المؤامرة بغير بينة قاطعة ولا ظن راجح.
فليس في شيء مما رواه الرواة عن الخلافة بعد النبي عليه السلام كلمة واحدة ترجح تلك الفروض والأقاويل، سواء كان قائلها ممن أسرعوا إلى بيعة الصديق أو تباطئوا في بيعته، أو قضوا حياتهم ولم يبايعوه.
وليس في شيء من خلائق أبي بكر وعمر وأبي عبيدة التي عهدها الناس منهم في حياة النبي أو بعد وفاته ما يأذن لمتوهم أن يتوهم فيهم التآمر على خلافته وهو بقيد الحياة، دون أن يطلعوه على جليلة أو دقيقة مما يفكرون فيه.
وليس في سيرة أبي بكر وعمر بعد أن وليا الخلافة ما ينم على طمع في السطوة، وحرص على زهو الملك يغريهما باستباحة ثقة النبي في حياته بما لا يليق. وهو عندهما بمكان من التجلة والحب لا تتطرق إليه الشكوك ولا ترتفع إليه الشبهات.
وعلى نقيض ذلك تدل الحوادث والروايات التاريخية على أن الأمر قد وقع منهم جميعا موقع المفاجأة التي لم يتدبروا فيها إلا بعد وقوعها، ولم يبرموا فيها الرأي على نحو من الأنحاء قبل اجتماع الأنصار بسقيفة بني ساعدة.
Halaman tidak diketahui
فالأقوال - أو تكاد تتفق - على أن أبا بكر لم يكن قريبا من النبي عليه السلام يوم أمر النبي بلالا أن يدعوه إلى الصلاة بالناس، ولو كان بينه وبين السيدة عائشة اتفاق في هذا الصدد لكان اقترابه من المسجد أو بيت النبي في تلك اللحظة لازما كل اللزوم لإنجاز ذلك الاتفاق، وإلا توجهت الدعوة إلى غيره وخرج الأمر من أيدي المتفقين.
وقد توفي النبي عليه السلام وليس في أصحابه الأقربين من كان يتوقع وفاته، فتركه أبو بكر بعد الصلاة وهو يقول: يا نبي الله! إني أراك قد أصبحت بنعمة من الله وفضل كما نحب واليوم يوم بنت خارجة، أفآتيها؟
فأذن له النبي في الانصراف: وخرج أبو بكر إلى «السنح» حيث كان يقيم.
أما عمر فقد دهش لنعي النبي تلك الدهشة التي لم يكن لها على أهبة، ولو كان على أهبة لها لقد كان الأحرى أن يؤكد الوفاة ولا يستغربها، تمهيدا لذلك الاتفاق المزعوم الذي سيتلوها.
وبلغ أبا بكر وعمر أن الأنصار مجتمعون في سقيفة بني ساعدة لاختيار الخليفة منهم، فخرجا إلى السقيفة على غير اتفاق بينهما أيهما الذي يخاطب القوم. فكان عمر يخشى حدة أبي بكر فيهيئ في نفسه كلاما يقوله، وكان أبو بكر يخشى حدة عمر فيستمهله ويخاطب القوم قبله، وليس في ذلك دليل اتفاق قديم.
وكان لقاؤهما أبا عبيدة يومئذ لقاء مصادفة في الطريق.
وجاء في رواية مشهورة أن عمر فاتح أبا عبيدة قبل ذلك فقال له: «ابسط يدك فلأبايعك. فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله.»
فقال له أبو عبيدة: ما رأيت لك فهة قبلها منذ أسلمت. أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين! ...
فإذا صحت هذه الرواية فهي تنفي ما قيل عن تفاهم هؤلاء الرجال الثلاثة على مبايعة أبي بكر وتعاقب الخلافة بعده، وقد يكون عمر فاتح أبا عبيدة عازما على مبايعته، أو فاتحه لاستطلاع ما عنده من الرأي والرغبة، فعلى كلتا الحالتين لا تفاهم من قبل على ذلك الرأي ولا اتفاق.
هكذا تلقى الصحاب الأجلاء نعي النبي، وهكذا كانوا في أثناء شدة المرض عليه، فمتى كان التفاهم المزعوم؟ أقبل أن يمرض رسول الله يعقل عاقل أن يجتمع صفوة أصحابه والمؤمنين برسالته للتآمر على وراثته واغتنام موته؟ إن جاز في عقل عاقل هذا ، فمن أدراهم إذن أن القرآن الكريم لا يوحي برأي في الخلافة غير الذي رأوه؟ ومن أدراهم إذن - سلفا - أن النبي عليه السلام يفارق هذه الدنيا، ولا يوصي في أمر الخلافة بوصاة يشهدها الناس عامة وتخالف ما اتفقوا عليه؟
Halaman tidak diketahui
إن الأمر لم يكن قابلا لأن يحصل فيه غير ما حصل، بعد حسبان كل حساب، واستقصاء كل فرض، وتمحيص كل رواية.
ولم يكن فيه اتفاق مدبر على صورة من الصور، وإنما هو كما قال عمر رضي الله عنه: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة ... ألا وإن الله وقى شرها.»
وما حاجة الأمر إلى تمهيد وقد كان في غنى عن التمهيد؟
لقد كان اختيار أبي بكر للخلافة «خيرة الواقع» الذي لا يحتاج إلى تدبير، بل يقاوم كل تدبير.
فمن غير أبي بكر كانت تجتمع له شرائط كما اجتمعت له، وتتلاقى عنده الوجهات كما تلاقت عنده؟
كانت تجتمع له شرائط السن، والسبق إلى الإسلام، وصحبة النبي في الغار، والمودة المرعية بين أجلاء الصحابة، ومعظمهم ممن دخلوا في الدين على يديه.
وكانت أمارات استخلافه ظاهرة من طلائعها الأولى قبل مرض النبي عليه السلام بسنوات. فكان أول أمير للحج بعث به النبي عليه السلام وهو بالمدينة.
وكان ذلك سنة تسع من الهجرة، واتفق في طريقه أنه دعا إلى صلاة الصبح فسمع رغوة ناقة وراء ظهره، فوقف عن التكبير وقال: هذه رغوة ناقة النبي
صلى الله عليه وسلم
الجدعاء فلعله أن يكون رسول الله فنصلي معه. فإذا علي بن أبي طالب على الناقة. فسأله أبو بكر: أمير أم رسول؟ قال: لا، بل رسول، أرسلني رسول الله
Halaman tidak diketahui
صلى الله عليه وسلم
ببراءة أقرؤها على الناس.
فلما قدموا مكة قام أبو بكر فخطب الناس محدثا عن المناسك، وقرأ علي سورة براءة حتى ختمها، ثم كان يوم عرفة فخطب أبو بكر وقرأ علي السورة، وهكذا حتى انتهت المناسك.
وكان قتال بين جماعة من الأوس، فذهب النبي عليه السلام يصلح بينهم وقال لبلال: إن حضرت الصلاة ولم آت؛ فمر أبا بكر فليصل بالناس.
وأثبت البخاري عن جبير بن مطعم أن امرأة أتت النبي
صلى الله عليه وسلم
فأمرها أن ترجع إليه. قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك ... كأنها تريد الموت.
قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر ...
وهذه أمارات مشهودة متفق عليها، وغيرها أمارات شتى بعضها أصرح وبعضها أحوج إلى التأويل، لا ضرورة لاستقصائها؛ لأنها لا تبلغ في الجزم والتوكيد مبلغ ما قدمناه. •••
واقترنت بتلك الأمارات جميعا أمارات أخرى لا تقل عنها صراحة وتواترا تدل على رغبة قوية في اجتناب كل ما يثير العصبية، ويلبس الأمر على الجهلاء والمغرضين بين دعوة النبوة وطلب السلطان والاستعلاء.
Halaman tidak diketahui
فلا نحسب أن محمدا عليه السلام دل بعمله وقوله ومضامين رأيه على شيء واضح مطرد كما دل على هذه الرغبة القوية، ولا ظهر منه الحرص على شيء كما ظهر حرصه على تنزيه النبوة من مطامع السيادة الدنيوية ومفاخر العصبيات.
فأبغض شيء كان إلى نفسه الكريمة قول من كانوا يقولون: إن النبوة تمهيد لدولة هاشمية أو وراثة دنيوية.
ولهذا أثر عنه أنه لم يول أحدا من قرابته ولاية أو عمالة في مكة والمدينة أو في غيرهما.
بل لهذا أصهر إلى أبي سفيان، واتخذ معاوية كاتبا للوحي، وأمر يوم فتح مكة مناديا ينادي في الناس: «... من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ليمحو من نفوس بني أمية حزازة العصبية بينهم وبين بني هاشم، ولا يدع في سرائرهم مجالا للظن بأنها غلبة أسرة على أسرة، أو بطن من قريش على سائر بطونها.
وقال عليه السلام: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» ولم يقل «في بني هاشم» أو في بني عبد المطلب، ولو شاء لقال.
ولا ريب أنه عليه السلام لم يؤثر قريشا بالأمر يومئذ؛ لأنه يؤثر العصبية لبني قبيلته وقومه، ولكنه آثرهم للحكمة السياسية البينة التي لا يسهو عنها الهداة المسئولون عن مصائر الأمم في عصر من العصور. فقريش هم أصحاب السيادة في مكة وهي كعبة الإسلام وعاصمة الدول الإسلامية في ذلك الحين. ولن تفلح دولة يكون أهل العاصمة فيها أول الثائرين عليها والمنكرين لذويها.
ويغلب على اعتقادنا أنه عليه السلام ترك أمر الخلافة بغير وصية ظاهرة؛ لأنه علم أن الخلافة منتهية إلى مثل ما انتهت إليه، ولا سيما بعد تقديمه أبا بكر للصلاة بالناس.
ونص على «قريش» ولم يتجاوز ذلك؛ لأنه علم أن قريشا تتفق على مثل ما اتفقت عليه، وأن الخلاف إنما يجيء - إن جاء - من جانب الأنصار أهل المدينة. فالحاجة ماسة إلى هذا التخصيص لدفع الخلاف المنظور، ومع هذا التخصيص اللازم وصية مكررة بإكرام الأنصار أوصى بها المسلمين بعده، وهي وصية معناها الواضح في هذا المقام أنه عليه السلام كان يترقب أن تئول الخلافة إلى المهاجرين فهم الذين تتجه إليهم الوصية بإكرام مثوى إخوانهم الأنصار، ولولا ذلك لما اتجهت الوصية لفريق منهما دون فريق.
ونقول: إن النبي علم بمصير الخلافة على الوجه الذي صارت إليه، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام ترك هذه المسألة وهو يتوقع فيها الفشل والفتنة، ولم يبرم فيها حكما يدفعهما به ما استطاع.
فإذا انحصرت الخلافة يومئذ في قريش؛ فهي صائرة إلى أبي بكر دون غيره ولا حاجة إلى تدبير لن يغير مصير الأمور.
Halaman tidak diketahui
وإلا فكيف كانت الخلافة صائرة إلى غير ما صارت إليه وهي محصورة يومئذ في قريش؟
وإلى من كانت تصير؟
إن الذين تولوها بعد أبي بكر من صحابة النبي هم عمر وعثمان وعلي ومعاوية. فأي هؤلاء كان أظهر حقا، وأقرب طريقا، وأدنى من الصديق إلى اتفاق المسلمين عليه؟
أهو عمر؟ لقد كان أصغر من أبي بكر بنحو عشر سنين، ولم تكن له سابقة في الإسلام وفي صحبة النبي، ولم تكن ألفة الناس له كألفتهم لأبي بكر، وليس هو بأقوى عصبة منه بين بطون قريش، وليس هو بالذي يشغب على أبي بكر ويعصيه لطمع في الخلافة إذا تقدم إليها بل كان هو أول من بايعه وحث الناس على بيعته. وقال له: أنت أفضل مني.
فقال أبو بكر: وأنت أقوى مني.
فعاد عمر يقول: وإن قوتي لك مع فضلك.
وكان هذا فصل الخطاب ومرجع الاختيار الذي لا تفويت فيه لفضل ولا قوة، ولا تضييع فيه لفرصة أبي بكر التي لا فرصة بعدها. أما عمر فله بعد ذلك فرصته حين يأتي أوانها.
أفكانت تصير إذن إلى عثمان بن عفان؟
إن عثمان رضي الله عنه أسلم على يدي أبي بكر، وقد كانت معه عصبية بني أمية وهي عصبية قوية، ولكن زعامة تلك العصبية كانت في يد أبي سفيان يومذاك، ولا طريق له إلى الخلافة وإن طمع فيها، وتنزه عثمان مع هذا أن يركن إلى تلك العصبية ليزاحم أبا بكر في حق لا ينكره ولا ينفسه عليه.
أفكانت تصير إذن إلى علي بن أبي طالب؟!
Halaman tidak diketahui
إنما كانت تصير إليه بحجة بني هاشم وهي الحجة التي اتقاها النبي جهده كما قدمنا، وكان بنو هاشم مع هذا لا يتفقون على اختيار واحد من رؤسائهم الثلاثة: العباس وعلي وأخيه عقيل، ولم يكن علي بعد هذا وذاك قد جاوز الثلاثين إلا بسنوات قلائل، وهي عقبة من العقبات التي لا يسهل تذليلها في أمة ترعى حق السن ومكانة الشيوخ إلا بوصية ظاهرة من النبي عليه السلام. ولم تكن هناك وصية من هذا القبيل كما اتفق عليه كل سند وثيق.
أفكانت تصير إذن إلى معاوية بن أبي سفيان؟
ما نحسب أن معاوية نفسه قام بخلده أن يرشح نفسه لخلافة النبي في تلك الآونة. ولو توافرت له السن وتوافرت له الذرائع التي تقربه من ذلك الأمل لآثرت قريش بالمبايعة كل بطن من بطونها غير بطن بني أمية؛ لأن الخلافة في بني أمية معناها دولة بني أمية، لاستطاعتهم بالخلافة وقوة العصبية أن يفرضوا دولتهم على سائر البطون وسائر القبائل ... أما الخلافة في بني تيم، رهط أبي بكر، فهي خلافة قريش كلها ومعهم جميع المسلمين، لتعذر قيام الدولة ببطن واحد من البطون الصغيرة واحتياج الحاكم إلى اتفاق هذه البطون من حوله. ويقال مثل ذلك في بني عدي رهط عمر، وفي سائر البطون القرشية ما عدا هاشما وأمية.
فإذا كان انتخاب أبي بكر للخلافة هو رأي قريش الذي محيد عنه، وهو نية النبي التي ظهرت من أعماله وإشاراته، فما الحاجة إلى التدبير بين السيدة عائشة وأبيها، أو بين الرجال الثلاثة أبي بكر وعمر وأبي عبيدة؟ ومن أين يأتي تخيل التدبير ولا موجب له من الفروض ولا من الإسناد؟
ربما كان الدليل الذي هو أقطع من كل دليل على نفي التدبير المزعوم أن تقدر أن التدبير لم يحصل قط فماذا كان يحصل بعد امتناعه، أكان يقع في مسألة الخلافة شيء غير الذي وقع؟ وما هو؟ وما حيلة التدبير في منعه؟
فإن كان الجواب أن التدبير وترك التدبير يستويان. وأن الحاجة إليه لا تخطر على بال عاقل، ففي ذلك غنى عن الأدلة الأخرى التي تنقضه وتلقي به في مراجم الظنون والأوهام.
نظر النبي إلى ذلك كله بالبصيرة الثاقبة التي تكشف له ما لا ينكشف لغيره، فسكت بالقدر اللازم، وأشار بالقدر اللازم، وعلم أنه قد أشار بما فيه الكفاية، وأن ما زاد على ذلك فهو زيادة على الكفاية.
وما نشك لحظة في أنه عليه السلام قد أحاط بكل ما يحاط به هذه المسالة خلال مرضه وقبل مرضه، وقد اطمأن إلى كل ما يوجب الاطمئنان في تقديره، وأنه لو رأى حاجة إلى المزيد من التصريح بالقول القاطع لصرح وقطع بالقول، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام يترك الإسلام والمسلمين عرضة للفشل والفتنة، ثم لا يدفع ذلك بما في وسعه. فاكتفاؤه بما صنع هو الدليل على علمه بما سيحدث واستغنائه عن المزيد من التدبير.
وقد نظر عليه السلام - ولا ريب - إلى كل ما يستحق النظر في مسألة الخلافة وهو يرشح لها أبا بكر ذلك الترشيح الأبوي الذي يؤنس بالرأي ولا يقحمه على القلوب.
نظر إلى حق أبي بكر كما نظر إلى مصلحة المسلمين.
Halaman tidak diketahui
فحق أبي بكر في قيامه مقام النبي ظاهر، ما فيه خلاف، ولا موجب لتخطيه إلى غيره على وجه من الوجوه.
ومصلحة المسلمين في ولايته راجحة في كل حساب؛ لأن المسلمين كانوا يومئذ أحوج إلى عهد يكون امتدادا لعهد النبي حتى يحين وقت التوسيع والتصرف، وأحوج إلى ألفة غير مخشية ولا منفوسة تعوضهم من طاعتهم للنبي بتعاونهم بينهم على النصيحة والمودة. وكل أولئك ميسور لأبي بكر قبل تيسره لغيره من جلة الصحابة الأقربين. فهو في حرص شديد على الاقتداء بالنبي، حرفا حرفا، وخطوة خطوة، لن يكون عهده إلا امتدادا للعهد النبوي حتى تتغير الأحوال فتأذن بالتغيير، وهو في ألفته واجتماع القلوب إليه خير من يخلف الطاعة بالمودة ويعالج الفرقة والانقسام بالرفق والتؤدة، فإن جد ما يدعو إلى التصرف أو يدعو إلى الشدة؛ فهناك الأعوان المخلصون له وللدين، وهناك المشيرون الذين يقلبون الرأي على جميع الوجوه: فضله مع قوتهم وقوته مع فضلهم، نعم العون ونعم الكفيل باجتماع أسباب الحول والحيلة، كما ألمع إلى ذلك عمر بن الخطاب.
ثم حانت الساعة التي تهيأت لها مشيئة القدر وتهيأت لها مشيئة الناس على ذلك النحو المستقيم.
فتم في يوم واحد كل ما ينبغي أن يتم في يوم.
ولاح للوهلة الأولى أن الخطر عظيم، وأنه موشك أن يعصف بكل شيء، وأن يخرج على كل سواء.
إذ اجتمع الأنصار يتحدثون بحقهم في الخلافة دون المهاجرين، وهمت الفتنة أن تنطلق بغير عنان في طريق لا تعرف عقباه، ولكنها فتنة مكبوحة قدر لها ألا تقوى على الانطلاق من باب السقيفة التي نجمت فيها.
فكان سعد بن عبادة زعيم القوم مريضا لا تؤاتيه في ذلك اليوم حركة النفس التي لا غنى عنها في ذلك المقام؛ لأنها تعدي بالهيبة والثقة من يستمعون إليه. فحملوه من بيته إلى السقيفة وهو لا يملك زمام عزمه ولا يقدر على الكلام، فجعل يخاطبهم بلسان القريبين منه، وجعلوا يصغون إليه إصغاءهم إلى مريض يشعرون بضعفه، لا إلى زعيم يشعرون بقوته وبأسه.
وكان القوم فريقين متنافسين منذ زمن قديم، وهم الخزرج والأوس وبينهما ملاحاة دائمة تهون معها كل ملاحاة بين الأنصار والمهاجرين.
وكانت يقظة عمر وأصحابه أسرع من فتنة القوم. فبلغوا السقيفة في إبانها وعالجوا الأمر حق علاجه، وقال كل منهم كلمة كانت أنفذ من سهم وأقهر من جيش. قال أبو بكر: «إن هذا الأمر إن تولته الأوس نفسته عليهم الخزرج، وإن تولته الخزرج نفسته عليهم الأوس، ولا تدين العرب لغير هذا الحي من قريش ... نحن الأمراء وأنتم الوزراء لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
وقال عمر: «إن العرب لا تمنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم.»
Halaman tidak diketahui