خرج من البطاح إلى اليمامة.
خرج من وقعة لا خطر لها إلى وقعة لها الخطر الأكبر في حروب الردة وفي حروب الإسلام كافة خلال أيام الخلفاء الراشدين.
ويرجح هذا الخطر إلى قوة بني حنيفة أصحاب اليمامة، ودهاء رئيسهم مسيلمة بن تمامة، ومنعة بلادهم بالجبال والأودية ووفرة الماء والثمرات.
هابها أصحاب سجاح، وقالوا لها حين حدثتهم بغزوها: إن مسيلمة قد استفحل أمره وعظم ... فلم تهون عليهم خطبها حتى استنزلت لهم سجعات من وحيها المزعوم تقول فيها: «عليكم باليمامة. دفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، ولا تلحقكم بعدها ملامة.»
وكان مسيلمة هذا رجلا قصيرا أخنس الأنف أفطسه شديد الصفرة زري الهيئة، ولكنه على ما يؤخذ من أخباره كان على ذكاء مفرط وحيلة نافذة، وكان من أولئك الدهاة الذين يعوضون بالحيلة ما فاتهم من الهيبة والرواء، فاشتهر بالخلابة والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، فمن خلابته أن النبي - عليه السلام - أرسل إليه رجلا من قراء القرآن؛ ليعلم أهل اليمامة أحكام الإسلام ويبصرهم بالفرائض والعبادات وهو نهار الرحال، فما لبث الخبيث أن استغواه حتى شهد له أنه يوحى إليه وأنه سمع النبي - عليه السلام - يقول إنه قد أشركه معه وشهد له بالنبوة ... وقد استغوى سجاح - وهي تدعي النبوة - حتى شهدت بنبوته وتزوجته وانصرفت من بلاده بنصيب من الهدايا يقنعها بالذهاب ولا يضمن لها التكرار، وكأنه كان على حظوة عند النساء وخبرة بأهوائهن وأساليب مرضاتهن، فقد كان نساؤه يحببنه ويجزعن عليه، وصاحت إحداهن ساعة أن قتله وحشي بن حرب مولى جبير بن مطعم: «وا أمير الوضاءة. قتله العبد الأسود ...»
وخليق بهذا أن يظن به السحر وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، فكان قبل ادعائه النبوة يطوف بالأسواق ويتعلم «النيرنجيات» حيث سمع بأساتذتها المبرزين فيها، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة وأدعياء الغيب ... فقد قيل في وصفه وهو يتكهن: «إنه إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه» ... والأغلب الأرجح أن به صرعا كأولئك الذين يشبهونه في الخلائق والدعاوي، ومنهم الذين يعالجون «الاستهواء» من المستهوين أو الوسطاء.
ولسلطانه على أبناء قبيلته أحبوه ووثقوا به وأطاعوه، فتأتى له أن يجمع منهم أربعين ألفا أو ستين، وهو عدد ربما ارتفعت به المبالغة أو الجهل بالتقدير، ولكنه لا يهبط إلى ما دون العشرين، قياسا على ما وصفت به معركة اليمامة من الهول وكثرة القتلى والجرحى بين الفريقين.
وقد كان مسيلمة يحسب الحساب لأمور كثيرة يوم تصدى لدعوى النبوة ومقاومة الإسلام ... فكان يقاتل ثمامة بن أثال، ويناوش بني تميم لما بينهم من الذحول والمنافسات، ويتوقى شر سجاح وقومها التغلبيين ودولة الأكاسرة من وراء التغلبيين، ويعلم أن أشياعه من بيوت بني تميم قد يخذلونه، وأن الذين دانوا بالإسلام بين قومه عيون عليه، وأن الخليفة لا يمهله ولا يجهل أخباره ... فتحيل على مهادنة خصومه، وفرغ جهده لحرب المسلمين وحدهم، وحشد كل ما وسعه من جند وسلاح، ثم تقدم بهم في عجلة إلى موقع يقال له عقرباء في طرف بلاده على مقربة من بلاد بني تميم.
ولم يكن خالد يجهل خطر الرجل الذي سيلقاه، ولم يكن يخفى عليه أن الحرب في العراء غير الحرب في بلاد تكتنفها الجبال، وتقام فيها الأبنية والأسوار، فتوجه إلى اليمامة في أهبة كافية بالقياس إلى أهبة المسلمين لأعدائهم في صدر الإسلام.
ولا يعلم على التحقيق عدد الجيش الذي كان معه في عقرباء، ولكنه على التقريب يجاوز ثمانية الآلاف ولا يقل عنها؛ لأن جيشه بالبزاخة نحو خمسة آلاف، يضاف إليهم جيش شرحبيل بن حسنة الذي سبقه ولبث في انتظاره، ولا يقل عن ألفين، ويضاف إليهم الردء الذي أرسله الصديق وراءهم بقيادة سليط بن عمرو؛ ليحمي ساقتهم، وغير هؤلاء من تطوع للحرب مع المسلمين من بني تميم وبني حنيفة، فهم في جملتهم يجاوزون ثمانية الآلاف ولا ينقصون عنها، إن نقصوا، إلا بقليل.
Halaman tidak diketahui