فصمد في الميدان حتى المساء.
ثم بدل مواقف الجيش تحت الليل فنقل الميمنة إلى الميسرة، ونقل الميسرة إلى الميمنة، وجعل الساقة في موضع المقدمة، والمقدمة في موضع الساقة، ورصد من خلف الجيش طائفة يثيرون الغبار ويكثرون الجلبة عند طلوع الصباح. فلما طلع الصباح على الفريقين، إذا بكل طائفة من طوائف الغسانيين والروم ترى قبالتها وجوها غير الوجوه وأعلاما غير الأعلام، وإذا بالجلبة مع هذا الاختلاف في الوجوه والأعلام توهم القوم أن مددا جديدا أقبل على جيش المسلمين، وكانوا قد ذاقوا منهم أمر المذاق بغير مدد وهم مفاجأون، فلما ذهب خالد يدافع القوم ويخاشي بجيشه لم يتبعوه حذرا من الكمين وتوقعا للإحاطة بهم من ورائهم، وأبلى خالد في هذه المدافعة والمخاشاة بلاء لم يبله قط في غزواته الكبرى على كثرتها. فاندقت في يده تسعة سيوف ولم تصبر معه إلا صفيحة يمانية، وكان هذا التراجع المحمي بشجاعة المستميت غطاء صالحا للجيش الصغير في مواجهة الجيش الكبير. فقفل إلى المدينة بسلام، وعرف خالد منذ ذلك اليوم بلقبه الذي أضفاه عليه النبي وهو سيف الله، وعاد الناس يقولون مع النبي إنهم الكرار بإذن الله وليسوا بالفرار ...
وقد سمعنا في عصورنا هذه بالألقاب الكبار تضفى على القادة لأنهم نجحوا في خطة ارتداد لا محيص منها. فتلك هي السنة النبوية تسبق النظم العصرية إلى تقدير القائد البارع بقيمة النجاح في ارتداده كما تقدره بقيمة النجاح في تقدمه وانتصاره. ولو أن خالدا ملكته فطرة المجازفة ولم تملكه فطرة القيادة البصيرة لساءت العقبى أيما سوء وتعرضت الدعوة الإسلامية لمحنة لا نعرف مداها الآن. ولربما تعرضت لهذه المحنة من جانب الجزيرة العربية قبل أن تتعرض لها من جانب الروم والغسانيين؛ لأن الجيش قد خرج من المدينة تأديبا لأناس متصلفين قتلوا رسولا واحدا أو قتلوا وفدا لا تجاوز عدته خمسة عشر. فإذا تورط هذا الجيش في الزحف حتى اصطلم
1
كله ولم يعد منه أحد، فكيف يكون وقع هذا التأديب المعكوس في نفوس البادية المتحفزة أو في نفوس أهل مكة ولما تسلم مفاتيحها للمسلمين؟ إنه ليبعث السخرية والاستهانة من حيث أريدت له الهيبة والمنعة، وإنه ليثير من الفتن ومساوئ الظنون ما يصعب استدراكه في سنين.
ولكن الجيش قد عاد وأبلى في أعدائه، وتسامعت الجزيرة بعدد الجحافل الهرقلية التي حسبتها مرصدة له ولم تقدر على تمزيقه ولا أصابت منه غير اثنى عشر قتيلا منهم القادة الثلاثة الذين ندبوا للشهادة قبل خروجه، فالسرية إذن قد نهضت بأمانتها، ووقع في نفوس المسلمين من فرط الثقة ببأسهم أنها كانت قادرة على جهاد أعظم من جهادها وثبات أطول من ثباتها، وهي مغالاة في القوة والبأس خير من المغالاة في الضعف والخور، ولا ضرر منها ما شفعتها تلك البصيرة العلوية التي تضع الأمور في نصابها، وتصف النجاح بصفاته ولو بدا للناس في ثياب الإخفاق. (2) بنو جذيمة
وقد أثنى النبي على خالد في مهمة لم يندبه لها، ولم يرشحه لها مرشح غير كفاءته واتفاق رأي المسلمين فيها.
ولكنه لامه وبرئ من عمله حين أخطأ في مهمة ندبه لها بعد فتح مكة، وهي السرية التي قادها إلى بني جذيمة ليكشف عن طويتهم ويدعوهم إلى الإسلام .
فبعد فتح مكة، توجهت عنايته عليه السلام إلى تطهير البوادي المحيطة بها من عبادة الأصنام فأرسل السرايا إلى قبائلها: لدعوتها والاستيثاق من نياتها، ومنها سرية خالد إلى بني جذيمة في نحو ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم ... أرسلهم دعاة ولم يأمرهم بقتال.
وكان بنو جذيمة «شر حي في الجاهلية يسمون لعقة الدم، ومن قتلاهم الفاكه ابن المغيرة وأخوه عما خالد بن الوليد، ووالد عبد الرحمن بن عوف، ومالك بن الشريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في موطن واحد» وغير هؤلاء من قبائل شتى.
Halaman tidak diketahui