أكبره؛ لأنه «سيف من سيوف الله »، والناس لا يرون إلا الهزيمة والارتداد، ولم يكن النبي موليه القيادة في المعركة التي ارتد منها بجيش المسلمين، فيقول قائل إنه ينصر المسئول عن اختياره، وهو من ثم المسئول عن ارتداده أو فراره. ولكنه ولى آخرين وترك اختياره بعدهم لمشيئة إخوانه في الجيش، فاختاروه بعد ذلك مجمعين.
كثير من رؤساء الأمم يعرفون موضع الإكليل من رءوس القادة وهم منتصرون ظافرون، ولكنه موضع يخفى جد الخفاء على أنظار هؤلاء الكثيرين إذا لم يدلهم عليه ضياء النصر والظفر ويبقى للعين الملهمة وحدها أن تراه في ظلام المحنة والبلاء.
وقد صحب خالد النبي ثلاث سنوات، وعهد إليه النبي في كثير من الأعمال الصغيرة وأشركه في بعض الأعمال الكبيرة؛ ومنها غزوة مؤتة، وغزوة حنين، وسرية بني جذيمة، فما من هذه الأعمال الكبيرة عمل واحد لم يتسع فيه المقال للشانئ والحاسد ولم ينظر إليه الناظر من وجهين متعادلين تارة إلى جانب العذر وتارة إلى جانب الملام، ولو أنه - رضي الله عنه - قضى نحبه في السنة العاشرة للهجرة أو بعد ذلك بقليل لعجب المؤرخون كيف سمي «سيف الله» وفيم استحق هذا اللقب الذي لا يعلوه لقب في الإسلام، ولكن النبي وحده قد عرف قبل الحادية عشرة للهجرة أنه حقيق بذلك اللقب على أوفى مداه، سماه به قبل أن يهزم المرتدين، وقبل أن يهزم الفرس والروم، وقبل أن يصون للإسلام جزيرة العرب ويضم إليها العراق والشام، وهي الأعمال الجسام التي من أجلها يدعى اليوم سيف الإسلام.
وإنما هو البصر العلوي الذي يلمح هذه القدرة في معدنها حيث ينظر الناس فيرون خالدا مرتدا من غزوة مؤتة، أو مأخوذا مع الخيل وهي تولي في أول المعركة من ميدان حنين، أو صانعا في سرية بني جذيمة ما يبرأ منه النبي عليه السلام.
ولهذا ينبغي أن توزن هذه الأعمال بميزانها الصحيح؛ لإقامة خالد نفسه في مقامه الصحيح، فهي - ولا ريب - من المعدن الذي نجمت منه حروب الردة وفتوح العراق والشام. (1) سرية مؤتة
وأول هذه الأعمال قد اشترك فيه متطوعا بعد إسلامه بشهرين أو ثلاثة أشهر، وهو سرية مؤتة التي سيرت إلى البلقاء.
وكان سبب هذه الغزوة أن النبي - عليه السلام - أرسل وفدا إلى ذات الطلح بمقربة من الشام؛ ليدعوهم إلى الإسلام، فقتلوا جميعا وعدتهم خمسة عشر إلا رئيسهم نجا من القتل وحده، ولعلهم أبقوا عليه عمدا؛ ليخبر بما رآه، على ديدن المنكلين في إبلاغ مثلاتهم إلى من يهددونه بالتمثيل والتنكيل.
وأرسل عليه السلام الحارث بن عمير الأزدي رسولا إلى هرقل، فقتله شرحبيل ابن عمرو الغساني وهو في الطريق.
فأشفق عليه السلام من عقبى السكوت على كلتا الفعلتين وهو غير مأمون ... وعلم أن قبائل الجزيرة العربية نفسها قد أذعنت للدعوة الجديدة ومنها المتربص للغدر متى قدر عليه، والموهون الإيمان الذي لا يصبر على الإغراء والاستثارة، فإذا استضعف الغسانيون وجيران الغسانيين شأن النبي وأفلتوا من جرائر فعلة كتلك الفعلة اللئيمة جرأهم ذلك عاجلا على اقتحام الصحراء للنقمة من المسلمين، فتهب القبائل لنصرتهم في طريقهم وتمدهم الدولة الرومانية بالمال والسلاح تقريرا لهيبتها في عيون أولئك البدو الذين جهلوا بأسها ووهموا أنهم قادرون عليها؛ إذ لا مطمع للدولة الرومانية في مقاتلة المسلمين وإخضاع الجزيرة بغير هذه الوسيلة، ولا سبيل إلى تسيير الجنود الرومانيين بنظامهم المعروف ومعاهداتهم الكثيرة لمنازلة المسلمين في عقر دارهم من وراء المفاوز والنجود، وتسييرهم بحرا إلى شواطئ الحجاز لا يغنيهم عن الاستعانة بأناس من العرب وأهل البادية، وهم أولى أن يستعينوا على هذا المطلب بأتباعهم الأقدمين في تخوم الشام.
فلم يجد عليه السلام مناصا من الثأر لأصحابه المقتولين، وجرد لتأديب المعتدين جيشا صغيرا لا تتجاوز عدته ثلاثة آلاف، وكان في ذلك الجيش خالد بن الوليد ونخبة من أقدم الصحابة عهدا بالإسلام، فلم يتول خالد قيادته؛ لأنه كان على الأرجح أحدثهم عهدا بالدخول فيه، وتولاها زيد بن حارثة «فإن أصيب فالرئيس جعفر بن أبي طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب فليرتض المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.»
Halaman tidak diketahui