سبر غوره، واستكنه عظمته، وعرفه في أصلح مواقفه؛ فعرف الموقف الذي يتقدم فيه على غيره، والموقف الذي هو أولى بتقديم غيره عليه.
وليست هي مفاضلة بين رجلين ولا موازنة بين قدرتين، ولكنها مسألة التوفيق بين الرجل والموضع الذي ينبغي أن يوضع فيه، والمهمة التي ينبغي أن يندب لها، والوقت الذي يحين فيه أوانه.
وربما رأينا في زماننا هذا رئيسا يوصي لنصير من أنصاره بالوزارة، ويوصي لغيره بقيادة الجيش، فلا نقول إنه يفاضل بين النصيرين، أو إنه يرجح أحدهما على الآخر في ميزان الكفاءة، وإنما يختار كلا منهما لموضعه في الوقت الذي يحتاج إليه، ولا غضاضة على أحد منهما في هذا الاختيار.
فالنبي - عليه السلام - كان يعلم من هو أبو بكر ومن هو عمر، وقد عادل بينهما أجل معادلة حين قال: «إن الله عز وجل ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال:
فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال:
إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ، ومثلك يا عمر مثل نوح قال:
رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ، ومثلك كمثل موسى قال:
ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم .»
كان النبي - عليه السلام - يعلم - كما قال - أن عمر أشد المسلمين في الله، ويعلم أن في أبي بكر لينا وهوادة؛ فجمع للإسلام المزيتين حين اختار أبا بكر للصلاة، وضمن هذا الاختيار معنى من معاني الاستخلاف، أو كما جاء في بعض الروايات أنه نص على استخلاف أبي بكر بالقول الصريح.
فتعزيز الإسلام بعد نبيه كان في حاجة إلى كثير من الهوادة والمجاوزة، وكان كذلك في حاجة إلى كثير من الشدة والصرامة، ولن تذهب شدة عمر إذا احتاج إليها أبو بكر في محنة يشتد فيها اللين الوديع، إنما الخوف أن يذهب لين أبي بكر إذا اشتد عمر، ولا خوف من أن يلين عمر وأبو بكر شديد؛ فإن الموقف إذا استنفد حجج الرحمة حتى يلجأ فيه أبو بكر إلى البأس ويصر عليه، فأقرب شيء أن يعدل عمر عن لينه، وأن يثوب إلى المعهود من صرامته ولدده.
Halaman tidak diketahui