فكان دستوره في الحرب أن يضع الأسس العامة، ويعهد في تنفيذها إلى ذي خبرة وأمانة، ولا يتخلى عن تبعته العظمى في مصائر الحرب كل التخلي، اعتمادا على القائد وحده؛ إذ ليس القائد بالمسئول الوحيد عن المصير.
فإذا رأى القائد رأيا وخالفه هو في رأيه أعانه بالمدد والمشورة على الأخذ بالرأي الذي دعاه إليه، وأبطل معاذيره بتوضيح الأمر وإعانته عليه.
ولقد كان إلى جانب هذا السهر على الميادين عامة، لا يغل يد القائد فيما يحسن أن تنطلق فيه، فإذا تجاوز الأمر سياسة الحرب العامة من فتح الميادين وفك الحصار وانتظار الهجوم، فمن حق القائد عنده أن يختار لنفسه، ولا ينتظر الرجوع إليه، وأن يجري في إدارة المعركة على الوجه الذي تمليه ضرورة الساعة، ولهذا استشاره أبو عبيدة في دخول الدروب خلف العدو، فكتب إليه: «أنت الشاهد وأنا الغائب، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنت بحضرة عدوك، وعيونك يأتونك بالأخبار، فإن رأيت الدخول إلى الدروب صوابا، فابعث إليهم السرايا، وادخل معهم بلادهم، وضيق عليهم مسالكهم، وإن طلبوا إليك الصلح فصالحهم ...»
فهو يضع القواعد العامة للحملة كلها منذ بداءتها.
وهو يختار القائد الضليع بتسيير تلك الحملة.
وهو بعد هذا لا يعفي نفسه من التبعة، ولا يعفي القائد من واجب الرجوع إليه في المواقف الحاسمة، ولا يغل يده فيما هو أدرى به وأقدر على الاختيار فيه، ولا ينسى أن يعينه إذا خالفه في الرأي ليتفق الرأيان المختلفان، فإذا رجع القائد إلى الحصار الذي أزمع أن يتركه، رجع إليه وهو مؤمن بصواب ما يعمل ليستمد من الإيمان بالصواب قوة لن يشعر بها وهو يؤدي عملا يخالف الصواب في تقديره.
وهذه السياسة هي السياسة التي جرى عليها عمر في جميع بعوثه وغزواته وسراياه، وهي السياسة التي لا يستطيع حاكم أن يجري على غيرها في حرب قديمة أو حديثة، وقد جرى عليها فجعلته كاسب النصر، كما يكسبه القائد في الميدان، وجعلت بطل الفرس رستم المشهور في التواريخ والأساطير يقول إن عمر هو هازمه في الميدان، و«أنه هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل! أكل عمر كبدي، أحرق الله كبده ...»
وربما أخطأ القائد الذي يختاره، فمسته التبعة من هذا الجانب؛ لأنه هو المسئول عن اختياره، غير أنها لا تمسه من جانب إلا أعفي منها من جانب آخر، أو جوانب عدة، كما حدث في وقعة الجسر التي قتل فيها قائده أبو عبيد المتقدم ذكره، ثم انهزم فيها جيش المسلمين، فهو مسئول عن اختيار هذا القائد، كما يسأل كل رئيس دولة في مثل ذلك، ولكن أعذاره على التحقيق أكبر من أخطائه في كل مسألة من هذا القبيل، وفي هذه المسألة بعينها كان اختياره لأبي عبيد إنصافا له حجته الراجحة فيه؛ لأنه كان أول من أجاب الدعوة إلى القتال، فلم ير من الإنصاف أن يؤخر المتقدم، ويقدم عليه المتخلفين، وقد سوغ الرجل اختياره إياه بانتصاراته الأولى التي رفعت شأنه بين القواد، فلما أخطأ جاءه الخطأ من مخالفة عمر في وصاياه، ومنها وجوب التريث والحذر من عبور الأنهار والجسور، ولم يكن على عمر لوم في تنحيه عن التنبيه والتحذير. •••
وقبل أن يضع دستورا للولاة وضع دستورا لنفسه قوامه أن الحكم محنة
20
Halaman tidak diketahui