Genius Pembaikan dan Pendidikan: Imam Muhammad Abduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genre-genre
ثم قال: «أما مروءته فليس أقوى دلالة عليها من خروجه قبل أن تخرج الشمس من غمدها وجيبه ممتلئ برقاع امتلأ بحاجات الناس، فلا يرجع إلى داره إلا بعد أن يرجع الدهر عن معاكسة من وضعوا آمالهم فيه ... وكم نظر الله إليه في جوف الليل وهو يمد يده بالحسنات إلى الفقراء والمساكين، ويعول أنفسا ماتت بموته اليوم.»
ولقد عرفنا نحن أناسا نظروا إليه في جوف الليل يطرق عليهم الأبواب ويسلمهم ما قدر عليه من عاجل الصدقة، وهو يقول لهم إنه أمانة من جهات الخير يؤديها إليهم ولا يعرفهم بنفسه، وكنا نسكن على خط المطرية التي كان فيها مسكنه، فنسمع أخباره هذه من أصحاب البيوت الكريمة التي فقدت عائلها، فلم يعرفوا أنه هو ذلك الرسول الذي كان يطرق عليهم أبوابهم تحت جنح الظلام إلا بعد أن افتقدوه على أثر وفاته.
وقد عهد أهله إلى تلميذه الحميم السيد رشيد رضا أن يرتب أوراقه عند سفره إلى الإسكندرية، فوجد في محافظ الأوراق صررا من النقود مكتوبا على كل منها اسم من يراد إعطاؤه إياها. وسأله - وهو يعد العدة للسفر - عن الشاعر الكاظمي، فذكر له أنه مدين، فأسف لأنه لم يخبره بذلك قبل تصرف أخيه في نفقة السفر؛ لأن الكاظمي أحوج إليها.
ولو عرفت هذه الصدقات المستورة التي كان يبذلها أو يسعى فيها ويوصلها بيده وأيدي خاصته إلى مستحقيها، لظهر أنها شغل حياة كاملة تستغرق العمر ولا تدع فيه فراغا لعمل سواها، وعجب الناس كيف كان يدبر لها وقتها مع تلك الأعمال الجسام التي كان يضطلع بها ولا يقبل الإنابة عنه في أدائها، ومثل هذا الشغلان بالإحسان فضل نادر في حياة العظماء الذين كانوا يشغلون بمثل شواغله، ويلقون من المصاعب والعقبات بعض ما كان يلقاه من أعدائه وأعوانه في أداء رسالته، ولكنه على هذه الندرة لم يكن بالخاصة المميزة التي تنطبع بها هذه النفس بين أقرانها ونظرائها، وإنما يمتاز الرجل في إحسانه بتلك المزية التي انطبعت بها جميع صفاته وجهوده، وهي مزية المعلم المطبوع على التعليم.
وما كان التعليم في مثل هذه الفطرة إلا شيئا يعطيه من ذخيرة الفكر والروح.
فالشيخ محمد عبده كان رائد «الخدمة الاجتماعية» في وطنه قبل أن تعرف في هذا الوطن وفي غيره «مصالح الخدمة الاجتماعية»، التي سميت بعد ذلك بأسماء الوزارات والدواوين، ولم يكن يقنع بما يسديه من الخير بيده حتى يكون هذا الخير في مجاله الواسع عملا عاما للمجتمع يتعود القائمون عليه أن يوطدوا له قواعده، ويتعاونوا على تنظيمه، ويتكلفوا بضمان البقاء بعدهم لمن يخلفهم عليه.
فالإحسان المستور - يدا بيد - عمل يستطيعه المحسن بينه وبين نفسه، ويحمد منه أن يكتمه ولا يعلمه لغيره، ولكن الإحسان في النكبات العامة لا يأتي بغير التعميم والتنظيم، وضمان الأمانة أو ضمان الدوام في غير الإغاثة الموقوتة التي تنقضي بانقضاء دواعيها، وهذه هي مواطن الإحسان التي كان محمد عبده يبادرها في ساعته كلما ألم بالبلاد داع من دواعيها، ولا يظهر اسمه للناس إلا كان مجرد ذكره ضمانا للثقة والطمأنينة، وكان توجيه الدعوة باسمه ضمانا للموافقة والإجابة، ثم يكون إشرافه على التدبير والإدارة ضمانا لانتظام العمل ودوامه.
فمنذ عاد محمد عبده من منفاه لم يتخلف قط عن الغوث العاجل للمستغيث، في نكبة من النكبات التي تصيب هذه البلاد ويقعد عنها ولاة الأمر والقادرون على الإغاثة بالمال أو السلطان، وكانت سنته في كل عمل من أعمال الغوث أن يندب له الجماعة من أهل الكفاية والأمانة بين خاصة صحبه، وأن ينهض هو بعبء تنظيمه ونشر الدعوة باسمه، ولم يحدث قط أن نهض بهذا العبء في عمل من تلك الأعمال إلا كان نهوضه به أمانا من الفوضى والاختلال.
تركت حملة السودان في هذا البلد جيشا من الأيتام والأرامل والعاطلين وجرحى الحرب والمنكوبين لا عائل لهم ولا مورد لمعونتهم، وأمسكت الحكومة يدها عن كل معونة لهذا الجيش الزاخر؛ لأنها اعتذرت بنفاد المال في نفقات الحملة، وعجز الخزانة عن ترتيب المعاشات أو التعويضات بين مصارفها المحدودة، فبادر الشيخ محمد عبده - وكان يومئذ قاضيا بمحكمة الاستئناف - إلى تأليف هيئة خاصة لحصر ضحايا الحرب وتنظيم المعونة لهم مما يتبرع به المحسنون، وتسهم به خزانة الحكومة وخزانة الأوقاف وغيرها من جهات البر والمساعدة، وجعل قوام اللجنة من رجال القضاء وأهل الثقة من كبار الأغنياء، وحرص على إحاطة هذه الهيئة بالضمانات «الرسمية» لضبط مواردها ومصارفها على نظام الحساب المتبع في دواوين الحكومة، وقامت هذه الهيئة بأمانتها على وجهها الأمثل، ثم تبعتها الحكومة والجماعات الخيرية في طريقها، بعد تمهيدها بهذه الفاتحة التي لم يكن لأولئك المكنوبين - لولاها - من مسألة يلتفت إليها.
واحترقت بلدة ميت غمر في أوائل صيف سنة 1902، فبلغ عدد المنكوبين بالحريق أكثر من خمسة آلاف، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، ولا بين غنيهم وفقيرهم في الحاجة إلى المأوى والطعام. وقال الأستاذ الإمام في وصف الحادث من بيانه الذي نشره على الناس في الصحف: «ليس الحادث بذي الخطب اليسير، فالمصابون خمسة آلاف وبضع مئين، منهم الأطفال الذين فقدوا عائليهم، والتجار والصناع الذين هلكت آلاتهم ورءوس أموالهم، ويتعذر عليهم أن يبتدئوا الحياة مرة أخرى إلا بمعونة من إخوانهم، وإلا أصبحوا متشردين متلصصين أو سائلين ...»
Halaman tidak diketahui