فتحول الفقيه ومعه سعيد، فلما صار في الطريق، أشار إلى سعيد أن يترك بغلته ويسير معه ماشيا لأن ذلك أسهل عليهما، فأشار سعيد إلى جوهر خادمه أن يحتفظ بالبغلة، ومشى مع الفقيه، فسار به في البساتين بين الأشجار والرياحين ، وقد سره المشي هناك بدلا من الركوب، ليتمكن من رؤية كل شيء، وقد وقف طويلا عند بعض الأحواض الرخامية يتأمل انسياب الماء من جوانبها، أو من أواسطها في الأنابيب المختلفة الأشكال والألوان، وحولها البستانيون يتعهدونها بالإصلاح والري والتنظيم. ولاحظ الفقيه إعجاب سعيد بما يشاهده هناك، فقال له: «أراك يا سعيد قد دهشت مما تراه في هذا القصر من البذخ! فكيف إذا دخلت قصر الزهراء ورأيت أبهاءها وقاعاتها وحدائقها وقبابها! كيف إذا رأيت القبة التي صنعت قراميدها من الذهب!»
فقال سعيد: «قراميدها من الذهب؟! إني أستغرب ذلك من أمير المؤمنين بعد أن عهدت إليه الخلافة، فصار نائبا عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو الناهي عن اتخاذ ذلك!» فأومأ إليه الفقيه بسبابته على شفته السفلى أن: «دع هذا الكلام الآن.»
الفصل الثاني عشر
القصر الزاهر
وظل سعيد والفقيه يتنقلان من بستان إلى بستان، ومن حديقة قصر إلى حديقة قصر آخر وقد سبقا الموكب، حتى أطلا على القصر الزاهر، وهو من أجمل أبنية القصر الكبير، فانتبه سعيد على الخصوص لواجهته، فرأي عليها نقوشا كالوشم على المعصم في أشكال جميلة، بين أقواس منحوتة على أشكال هندسية عربية، تتخللها الأبواب من أسفل، وهي في غاية ما يكون من إتقان النقش، ويزينها في الطبقة العليا النوافذ والأحنية والقناطر كالرواق القائم على أساطين الرخام، وعلى تيجانها نقوش وكتابة، وفوق التيجان الأقواس قد قطعت سقوفها مربعات متداخلة ورسمت فيها الآيات والدعوات حفرا أو تصويرا، وعلى أفاريز النوافذ أبيات من الشعر مذهبة، والأفاريز من الشكل المقرنص، وتنتهي تلك الطبقة بطنف بارز هو امتداد السطح إلى الخارج، وعليه نقوش في غاية الجمال، وحول النوافذ زجاج ملون مصنوع على أشكال هندسية في أجمل زينة.
لم يستطع سعيد التفرس في ذلك البناء طويلا لما رآه ببابه من الحرس وقوفا، وهم من خاصة الفتيان الأكابر والمقدمين. عليهم الملابس المحلاة بالقصب، وعلى أكتافهم الظهائر المذهبة، وعلى رءوسهم قلنسوات هرمية الشكل، يزينها الطراز المذهب، وقد تقلدوا السيوف المذهبة وهم نخبة الرجال قامة وجمالا وهيبة ، مما يلفت الأنظار، فتهيب سعيد من تلك العظمة، ولم يكن يتصور أبهة الملك تبلغ إلى هذا الحد، فقال في نفسه: «كيف يكون إذن البهو الداخلي الذي أعدوه لاستقبال الرسل؟!» ولم يستطع دخول القصر إلا بعد أن رأى الحرس رفيقه الفقيه ابن عبد البر، وتحققوا أنه من حاشية الأمير عبد الله وصنيعة الحكم، فدخل وتبعه سعيد، فمشيا في طرقات بين الأشجار مفروشة بالأزهار والرياحين، حتى بلغا الباب الخارجي وقد فرش من عتبته حتى الدهليز وصحن الدار، وهو البهو الخارجي، بأنفس البسط وأندر الأرائك، وظللت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج وأثمن الستائر.
وصعد سعيد ورفيقه من ذلك الصحن على بضع درجات من الرخام المذهب إلى بهو واسع، قد نقش سقفه وأفاريزه بالذهب والألوان الزاهية، أكثرها الأحمر، والأزرق، والأصفر، وقد جللت جدرانه بالديباج، وفرشت أرضه بالسجاد الثمين، ونصبت المقاعد والكراسي في جوانب البهو على حسب الرتب والمناصب.
وفي صدر البهو سرير الخليفة من الذهب مرصع بالزمرد والياقوت، فوقه قبة فيها نقوش وأبيات على أبدع تصوير، وقد فاحت رائحة العنبر من مبخرة مذهبة نصبت في بعض جوانب البهو، ولم يؤذن بدخولهما هذا المجلس؛ لأن الخليفة لم يكن قد وصل بعد، فوقفا حائرين وسعيد يتفرس في كل شيء، ويعمل فكره في كل شيء. ثم لاحت منه التفاتة فرأى ياسرا ينظر إليه، فأشار سعيد أنه يريد الدخول فتقدم ياسر وقال له: «لا يجوز الدخول قبل مجيء الخليفة، ولكن لا بأس من دخولكما خلسة من باب سري، فتجلسان في مكان لا يراكما فيه أحد، ومتي انتظم عقد المدعوين، تجلسان في هذا المكان مع جماعة الفقهاء.» وأشار لهما إلى المكان.
فسر سعيد لهذه الفرصة، ودخل ومعه الفقيه ابن عبد البر، حتى وقفا وراء أحد الأعمدة في آخر البهو، بحيث يريان كل قادم، ولا يراهما أحد.
Halaman tidak diketahui