وكانت عابدة في أثناء ذلك الوقت مشغولة بكتاب في يدها تقلب صفحاته، وكلما سمعت مديحا في سعيد اختلج قلبها فرحا به، وتنهدت تنهدا عميقا.
وانتبه الفقيه لها في تلك اللحظة، فقال لياسر: «وهل عرفت هذه الفتاة الأديبة؟ لا أظن أن في قصور أمير المؤمنين فتاة في مثل أدبها وعقلها.»
فالتفت ياسر إلى الفتاة وقد خجلت من ذلك الإطراء، وعلت وجهها حمرة الخجل وأبرقت عيناها، فقال: «هل تعرف الشعر والأدب؟»
قال سعيد: «نعم يا سيدي. إنها تحفظ كثيرا من أشعار العرب وأمثالهم وأخبارهم.»
قال ياسر: «ليس يوجد بين نساء قصر أمير المؤمنين من تحفظ الشعر إلا الزهراء؛ ولذلك فإنها أقرب جواريه إليه كما تعلمون؛ لأن مولانا عبد الرحمن الناصر كثير الشغف بالأدب وأهله، على أن معرفتها قليلة بجانب ما تذكره عن هذه الفتاة.»
فندم الفقيه ابن عبد البر على توجيه نظر ياسر إلى عابدة؛ مخافة أن يسعى في أخذها إلى الخليفة، وهو يحب أن تكون للأمير عبد الله فيكون له حظ من أدبها، فغير الحديث واستأذن في الانصراف على موعد اللقاء يوم السبت التالي، وبعد قليل انصرف ياسر بعد أن ودع سعيدا وقد تفاهما.
الفصل العاشر
الاحتفال
وأخذ أهل قرطبة يتأهبون لاستقبال رسل ملك القسطنطينية في البناء المعروف بالقصر الزاهر، أحد أبنية القصر الكبير؛ لأن هذا القصر كان مؤلفا من عدة قصور كما تقدم، وهو يقع في الطرف الغربي من قرطبة، يطل على الوادي الكبير، وهو نهرها الذي يجري من الشرق الشمالي إلى الغرب الجنوبي، والقصر يشغل مساحة كبيرة تتخللها البساتين والحدائق، والأحواض، والبرك، والبحيرات، والقصور ونحوها، ويحيط بها جميعا سور له بضعة أبواب: منها بابان في الجنوب يطلان على النهر، هما باب الجنان والسطح، وواحد في الشمال اسمه باب قورية، وآخر في الشرق هو باب الجامع، والأخير في الغرب ويقال له باب الوادي، والاثنان الأولان يشرفان على النهر، وبينه وبينهما رصيف عريض يفصل قرطبة عن النهر، يخرج إليه الوجهاء وأهل الدولة للتنزه بقرب الوادي الكبير (النهر).
وفوق النهر جسر فخم (كوبري) يصل بين قرطبة وأرباضها الجنوبية طوله ثمانمائة ذراع، وعرضه عشرون ذراعا، وارتفاعه ستون ذراعا، وعدد قناطره ثماني عشرة قنطرة، وفوقه أبراج عددها تسعة عشر برجا، وهو يعد من مفاخر قرطبة، ولا يزال حتى الآن من آثارها الفخمة.
Halaman tidak diketahui