Abdul Rahman Al-Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genre-genre
ولا يمتنع الاستبداد في شكل من أشكال الحكومة مع غفلة الأمة وقدرة الحاكمين على تضليلها والتمويه عليها، قال: «إنه ما من حكومة عادلة تأمن المسئولية والمؤاخذة بسبب من أسباب غفلة الأمة أو إغفالها لها إلا وتسارع إلى التلبس بصفة الاستبداد، وبعد أن تتمكن فيه لا تتركه وفي خدمتها شيء من القوتين الهائلتين المهولتين: جهالة الأمة والجنود المنظمة.»
ومن علامات الحكومة الصالحة التي يتعذر عليها الاستبداد في رأي الكواكبي أن يشترك فيها من عناهم القرآن الكريم بأهل الذكر، واصطلح الفقهاء على تسميتهم بأهل «الحل والعقد» من قادة الأمة وهداتها، قال بلسان الإمام الصيني في أم القرى: «وهؤلاء الذين نسميهم عندنا بالحكماء هم الذين يطلق عليهم في الشريعة الإسلامية اسم أهل الحل والعقد الذين لا تنعقد الإمامة شرعا إلا ببيعتهم، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله - عز شأنه - نبيه بمشاورتهم في الأمر ... لأنهم رؤساء الأمة ووكلاء العامة والقائمون في الحكومة الإسلامية مقام مجالس النواب والأشراف في الحكومات المقيدة.»
وإذا أشار الكواكبي إلى الطبقة العليا في «أم القرى» أو «طبائع الاستبداد» لم يدع أحدا من قرائه يفهم أنها الطبقة العليا بالألقاب أو الطبقة العليا بالميراث؛ لأنه يسمي أصحاب الألقاب من خدام الاستبداد «بالمتمجدين» أو أدعياء المجد، ويقول: إن هذا التمجد «خاص بالإدارات الاستبدادية؛ لأن الحكومة الحرة التي تمثل عواطف الأمة تأبى كل الإباء إخلال التساوي بين الأفراد إلا لموجب حقيقي، فلا ترفع قدر أحد منها إلا أثناء قيامه في خدمتها؛ أي الخدمة العمومية، كما أنها لا تميزه بوسام أو تشرفه بلقب إلا إعلانا لخدمة مهمة».
وإنما يكون التمجد - كما قال - «أن يتقلد الرجل سيفا من قبل الجبار يبرهن به على أنه جلاد في دولة الاستبداد، أو يعلق على صدره وساما مشعرا بما وراءه من الوجدان المستبيح للعدوان، أو يتحلى بسيور مزركشة تنبئ بأنه صار أقرب إلى النساء منه إلى الرجال، وبعبارة أوضح وأخصر: هو أن يصير الإنسان مستبدا صغيرا في كنف المستبد الأعظم».
وطبقة الميراث - ما لم يميزها العلم والخلق الرفيع - هي جرثومة البلاء كما قال، وأبناؤها «هم الأكثر عددا والأهم موقعا، وهم مطمح نظر المستبد في الاستعانة وموضع ثقته».
قال من كلامه عن الاستبداد والمجد: إن هؤلاء الأصلاء «هم جرثومة البلاء في كل قبيلة ومن كل قبيل؛ لأن بني آدم داموا إخوانا متساوين إلى أن ميزت الصدفة بعض أفرادهم بكثرة النسل، فنشأت منها القوات العصبية، ونشأ من تنازعها تميز أفراد على أفراد، وحفظ هذه الميزة أوجد الأصلاء ... فالأصلاء في عشيرة أو أمة إذا كانوا متقاربي القوات استبدوا على باقي الناس وأسسوا حكومة أشراف، ومتى وجد بيت من الأصلاء يتميز كثيرا على باقي البيوت يستبد وحده ويؤسس الحكومة الفردية المقيدة إذا كان لباقي البيوت بقية بأس، أو المطلقة إذا لم يبق أمامه من يتقيه».
ثم قال: «إذا لم يوجد في أمة أصلاء بالكلية، أو وجد ولكن كان لسواد الناس صوت غالب، أقامت تلك الأمة فعلا أو حكما لنفسها حكومة انتخابية لا وراثة فيها ابتداء، ولكن لا يتوالى بضع متولين إلا ويصير أنسالهم أصلاء يتناظرون، كل فريق منهم يسعى لاجتذاب طرف من الأمة استعدادا للمغالبة وإعادة التاريخ الأول ...» •••
فالطبقة العليا - في تعبير الكواكبي - لا تعني طبقة من طبقات المظاهر المصنوعة ولا المظاهر الموروثة: لا تعني حملة الألقاب والرتب التي يخلعها الحاكم المطلق على خدامه وعبيد سلطانه، ولا تعني أصحاب الوجاهة المنقولة من الأسلاف إلى الأعقاب دون أن ينتقل معها سبب من أسباب الوجاهة النافعة، وإنما الطبقة العليا في تعبير صاحب «طبائع الاستبداد»، و«أم القرى»، هي الطبقة التي استعدت بكفايتها ودرايتها لقيادة الأمة والاضطلاع «بالخدمة العمومية» والسبق إلى تكاليف العمل والمعرفة، تتولاها وكالة عن جمهرة الأمة، ولا بد في ولايتها من صوت غالب لسواد الأمة، على أية حال، كما يؤخذ من إحصائه لأسباب فساد الحكومة فيما جمعه من هذه الأسباب السياسية والدينية والأخلاقية في فصل خاص ألحقه بفصول أم القرى.
وأيا كان مفاد «الطبقة» في تعبير الكواكبي خاصة، فقوام النظام الصالح كله أمران: أن تتساوى الطبقات في الحقوق القانونية، وأن تتقارب في الثروة ودرجات المعيشة.
فلا مناص من إعداد الشعوب لنيل «الأخوة العمومية بالتجاوب بين الأفراد والقناعة بالمساواة الحقوقية بين الطبقات».
Halaman tidak diketahui