فلما سمع مسرور هذه الوعود ارتاحت نفسه إليها، وخطر في باله أن الرشيد ربما أمر بالقتل في ساعة غضبه، فإذا سكن غضبه يغير رأيه، ويعفو عنه، فيكتسب هو هذه الأموال، ويتمتع بهذا المنصب، فأطرق. فلما رآه مطرقا طمع في الحياة، ولبث ينتظر ما يبدو منه، فإذا هو يقول: «ربما يكون ذلك.» ومد يده إليه فحل سيفه ومنطقته وأخذهما، وعهد به إلى الحراس الواقفين هناك، وأوصاهم بحراسته وخرج.
فلما خلا جعفر إلى نفسه تلفت فلم ير غير النطع والسيف فرجع إلى رشده. ومع ما يغلب على المرء من الأمل في الحياة مهما بلغ من تعرضه للخطر، فجعفر لم يكن يرجو نجاة؛ لما يعلمه من الأسباب التي بعثت الرشيد على قتله بعد ما كان يدور بينهما من المداجاة والمخادعة، وأيقن في تلك الساعة أن الرشيد يعلم بصلته بالعباسة، ثم تذكر مجيء عتبة بتلك العجلة، فندم على استمهالها ريثما يعود، وخطر له أن تكون قد جاءت بتحذير أو تنبيه كان ينفعه لو اطلع عليه قبل خروجه، فزادت مصيبته، وأصبح كأنه يرى الموت رأي العين، وهاجت أشجانه فتمثلت له العباسة كما فارقها للمرة الأخيرة وقد تواعدا على الفرار إلى خراسان، وتذكر ما كان يرجوه من النجاة بها وبولديه لو سافر بالأمس بغير وداع، أو لو قابل عتبة قبل خروجه، فضاق صدره وتجسمت مصيبته فدهمه البكاء، وود لو أنه يرى العباسة قبل موته ويقبل طفليه قبل هذا الفراق الأبدي، فأخذ في البكاء وجعل يخاطب نفسه قائلا: «وا حسرتاه عليك أيتها الحبيبة! بل وا لهفي على قبلة من ولدي! قضيت العمر أتحرق على ساعة ألاعبهما فيها كما يلاعب الأب أولاده، فلما ظننت ذلك قريبا فإذا هو بعيد عني بعد الأبدية، وأنت يا زوجتي بشرع الله - وإن ادعى أخوك الرشيد خيانتنا - لقد تحملت خطر الموت من أجلي، وعرضت نفسك لغضب هذا الرجل المستبد حبا لي. نعم، لم يحملك على ذلك غير الحب الصادق، ولولاه لكنت في نعمة وسعادة؛ لأن بني هاشم جميعا يتمنون رضاك. ماذا عسى أن يكون حالك إذا عرف أخوك الرشيد بأمرنا؟ فإنه يقتلك لا محالة. إذا لم يكن قد قتلك الآن. هل جاءت عتبة لتخبرني بقتلك، وتحذرني من مثله؛ رفقا منك بحبيبك أن يصيبه ما أصابك؟ ربما كان ذلك. وأنت جديرة بهذه الخصال؛ فقد عرفت تفانيك في سبيل حبي غير مرة. فإذا كنت قد قضيت نحبك قبلي، فأنا نادم على طلب البقاء، بل أنا راغب في اللحاق بك، وإذا كنت لا تزالين على قيد الحياة، فأنت لاحقة بي لا محالة؛ لأن أخاك لم يسرع إلى الفتك بي إلا وقد اطلع على ما يظنه خيانة، والله يعلم أننا إنما أطعنا به الشرع وشروط الحب.» وسكت لحظة ريثما يبلع ريقه ويمسح دموعه ثم قال: «وولدانا؟ يا حسن ويا حسين. أين أنتما الآن؟ هل تعلمان بما حل بوالديكما على يد ذلك الخال الظالم؟ آه من استبداده وقسوة قلبه.» قال ذلك وغص بريقه، وأحس باختناق صوته، وإذا بالمفتاح يعالج الباب، فأجفل وانتبه لنفسه، فسكت وبصره شاخص نحو الباب، حتى إذا فتح دخل مسرور ووجهه مقطب، فعلم أنه لم ينجح في مهمته، وهم أن يخاطبه فسمعه يقول: «ذهبت إلى أمير المؤمنين، فلما رآني سألني عنك، فقلت له قد أنفذت أمرك فيه.» فقال: «ائتني حالا برأسه.»
فلما سمع جعفر قوله تجلد وقال له: «افعل ما بدا لك، ولكنني أسألك سؤالا واحدا أصدقني في الإجابة عنه وأنا في آخر لحظة من لحظات الحياة.»
فقال مسرور: «وما ذلك؟»
قال جعفر: «ماذا جرى للعباسة؟ قل الصدق ولا تخف من وشاية؛ فإن سامعك مقتول.»
فقال مسرور: «إن العباسة قتلت.»
فصاح جعفر: «قتلت! اقتلني. عجل بقتلي؛ لا رغبة لي في الحياة.»
ولم يتم جعفر كلامه حتى ضربه مسرور بالسيف على عنقه فأطار رأسه، فحمل الرأس وهو ينقط دما وذهب به إلى الرشيد.
الفصل الخامس والستون
الرشيد ورأس جعفر
Halaman tidak diketahui