فانتبه فإذا هو بباب المدينة، فرأى مسوغا لتغيير الحديث فقال: «أرانا قد عدنا إلى بغداد. فأين الصيد؟»
قال: «لم أخرج للصيد إلا حيلة لمرافقتك، وقد أوصيت من يقوم به عني، ولكني لم أسمع منك غير ما يقوله سائر الناس ممن يجالسوننا ويصانعوننا، وأنت شيخ بني هاشم وحكيمهم، فلا أقبل منك هذه المصانعة.»
فقال: «أرى أمير المؤمنين حسن الظن بي، وأنا - بحمد الله - عند حسن ظنه، ولكنني لم أسمع منه سؤالا صريحا فأجيبه.»
الفصل الحادي والخمسون
التصريح
وكان الرشيد لما دخل المدينة قد عاد الموكب إلى المسير بين يديه فقال: «نحن داخلون بغداد، وعما قليل ندخل قصر الخلد فنخلو ونتحدث.»
فأوجس إسماعيل خيفة من عاقبة ذلك الحديث، ولكنه تجلد وسكت حتى إذا دخلا القصر ترجلا وسارا إلى غرفة خاصة، فجلس الرشيد على السرير ودعا إسماعيل إلى جانبه، فجلس وهو مطرق ينتظر ما يقوله الخليفة، فإذا هو يقول: «دعك من الدفاع، وقل ما في نفسك. ألم تر هؤلاء الأعاجم قد تطاولوا علينا، واستأثروا بالدولة وأموالها دوننا؟»
قال: «بلى، ولكنهم فعلوا ذلك بإرادة أمير المؤمنين، ولو أفهمهم أنه يريد غير ذلك لأذعنوا لأمره.»
قال: «وهل أمرتهم أن يستأثروا بكل شيء دوني؟»
فتوقف إسماعيل عن الجواب وهو يتردد بين أن يبوح له بما يعتقده من فضل البرامكة على الدولة، أو يسايره في أقواله، فغلب عليه استقلال رأيه فقال: «أما وقد أكرمني أمير المؤمنين بحسن ظنه، فلا ينبغي أن أكتمه شيئا مما يجول في خاطري. إن البرامكة عبيد مولانا ومواليه ولا خلاف في ذلك، ولكن أمير المؤمنين أعلم الناس بما كان من بلائهم في مصلحة هذه الدولة من عهد جدهم خالد في خدمة جدك المنصور. وقد عرف هذا الملك النبيل فضل خالد فقدمه كما قدم أمير المؤمنين ابنه يحيى وحفيده جعفرا. ولا يخفى على الرشيد ما لهؤلاء من الأثر الصالح في خدمة دولته، وتنظيم إدارتها، وسائر شئونها، غير ما لهم من المآثر في رفع منار العلم وأسبابه؛ بتقديم الفلاسفة، واستقدام الأطباء من الهند وفارس إلى بغداد ، وقد بنوا المارستان، وأدخلوا الكاغد ، وعمروا بغداد بنقل الكتب. وهم لم يفعلوا ذلك إلا والرشيد راض عنه. وأخشى أن أطيل الكلام.»
Halaman tidak diketahui