به، ولكن المصلحة وحسن السياسة يقضيان علينا بتلافي أسباب الفتن؛ لئلا يرى أعداؤنا ضعفا فينا فيغتالوننا، وهم كثيرون؛ يكفي منهم الروم في القسطنطينية، والأمويون في الأندلس. وأنا أؤمن بعجزهم عن الفوز، ولكن الحكمة تستدعي التكاتف وجمع الكلمة. وهذا سهل على الرشيد إذا استخدم ذكاءه ودهاءه، فيشغل أهل المطامع من أهله بخدمة دولته بدلا من أن يتفرغوا لإقلاق راحته.»
فبادر الرشيد إلى قطع كلامه خوفا من استرساله في الحديث حتى يصرح بأكثر من ذلك، فيغلب الغضب عليه ولا يقوى على التماسك فقال: «قد كان بودنا أن نولي ابن أخينا مصر، لولا ما قدمته من الوعد بها لإبراهيم. فهل ترى لي حيلة أخرى؟»
فأسرع إسماعيل بالجواب قائلا وقد غلبت عليه الأنفة والاستقلال بالرأي: «لي حيلة واحدة.»
قال: «وما هي؟»
فقال وكفاه على ركبتيه كأنه يتحفز للقيام: «تبايع له بالخلافة بعد محمد وعبد الله (الأمين والمأمون). افعل ذلك ولو على سبيل الرضاء.»
فلما سمع الرشيد قوله ألقى القضيب من يده على السرير ونهض بغتة، ونزل إلى البساط
انحرفت البردة عن كتفيه وكادت تسقط، وقد نسي موقفه ومنزلة إسماعيل عنده، ثم أصلح البردة وجعل يخطر في الإيوان. فنهض إسماعيل وقد أدرك أن بقاءه هناك أصبح خطرا ولا فائدة منه، وأجل التصريح بما في نفسه لفرصة أخرى، فتراجع من موقفه وقد رأى بنهوض الخليفة مسوغا لخروجه من حضرته؛ لأن ذلك من علامات الإذن بالانصراف عند الخلفاء، ولكنه لم يشأ الخروج على تلك الصورة لئلا يسيء الرشيد الظن به فقال: «أظن أن أمير المؤمنين قد ندم على ما سمح لي من إطلاق لساني بين يديه، وأظنني قد تطاولت في الدالة عليه إلى أبعد مما ينبغي فتدخلت فيما لا يعنيني، فأعتذر له عن جسارتي.»
وكان الرشيد قد وقف وتشاغل بقراءة بيتين من الشعر منقوشين على حائط الإيوان، فلما سمع قوله تحول إليه وتكلف ابتسامة لم تخف غضبه وقال: «إن إسماعيل عندنا في المقام الذي تعلمه، وله فضل النصح والمشورة على الدولة، فلا يزعجك ما رأيته من وقوفي فجأة. وإذا غضبت فإن غضبي لك لا منك، وكيف أغضب من شيخ بني هاشم وحكيم بني العباس؟ ولكن ساءني
فأدرك إسماعيل من خلال قوله ما كان يحاول إخفاءه من الغضب، وما يتكلفه من التلطف في الجواب، فقال: «أشكر لمولاي تفضله وحسن قصده، والظاهر أن سوء طالع ذلك الرجل قد أوجب هذا الاتفاق؛ إذ لكل وقت طالع، وكأن طالع هذه الساعة لا يوافق حظه. فهل يأذن مولاي بانصرافي الآن، ونؤجل ذلك إلى ساعة خير من هذه؟»
فسر الرشيد لطلبه الانصراف في تلك الحال وقال: «لا بأس من انصرافك يا عماه.»
Halaman tidak diketahui