وملكت الجميع دهشة عظيمة، واهتزت قلوبهم بسعادة طاغية جعلت الكلام عسيرا ، وقص عليهم ددف قصته، وذكر نعمة فرعون عليه، ودموع الفرح تشرق بعينيه الجميلتين، ولم تتمالك زايا نفسها فبكت، وكانت تصلي للرب بتاح الواهب المنان، واهتز بشارو طربا فجعل يروح ويجيء بجسمه المنتفخ المتهدل، أما نافا فقد قبل الشاب السعيد واسترسل يضحك ضحك الفرح والابتهاج، وباركه خنى وأكد له أن الآلهة لا تقضي بهذه الأمور الجليلة إلا وهي ترسم له غاية مجيدة لم يفز بها إنسان من قبل! ومضى كل منهم يعبر عما يختلج في ضميره من الفرح والسعادة.
وذكر ددف السيدة التي تركها في حجرة الضيوف، فقام من فوره وذكر لهم بسرعة قصتها، وقال لأمه: أرجو أن تكرمي مثواها يا أماه حتى تترك بيتنا.
فقالت أمه: سأنزل يا بني للترحيب بها.
وصحب ددف أمه ودخلا إلى حجرة الضيوف معا، وهي تقول: أهلا بك يا سيدتي ... لقد حللت في بيتك ...
ونهضت السيدة من جلستها وأحنت قامتها المثقلة بهوان السنين وذل الأيام، ثم مدت يدها إلى مضيفتها الكريمة، فالتقت عينا المرأتين لأول مرة، وبسرعة البرق نسيتا ما كانتا فيه من تبادل التحايا، ونظرتا كل منهما إلى الأخرى بغرابة، وكأنما تجهد نفسها لاختراق الحجب الكثيفة التي وضعها الزمان على وجه الماضي البعيد، واتسعت عينا المرأة الغريبة، وصاحت في دهشة جنونية: زايا!
فتولى الذعر زايا وجعلت تنظر إليها بذهول شديد، وجعل ددف يقلب وجهه بينهما في حيرة، وهو يعجب للمرأة التي عرفت أمه مع أنها قضت عشرين عاما من حياتها في منفاها، وسألها دهشا: كيف عرفت أمي يا سيدتي؟
ولكن المرأة لم تأبه لقوله، ولعلها لم تسمع قط؛ لأنها كانت منتبهة إلى زايا بكل وجدانها، وقد ضاقت بخرسها فصاحت بها: زايا ...! زايا ...! ألست زايا؟ ... ما لك لا تتكلمين؟ ... تكلمي ... أيتها الخادمة الخائنة ... تكلمي ... وقولي لي ماذا فعلت بابني! ... أين ابني أيتها المرأة؟ ...
ولم تتكلم زايا ولا تحولت عيناها عن المرأة الغاضبة، ولكن أعياها الاضطراب، ومزقها الخوف، فجعلت ترتجف، وحاكى وجهها وجوه الموتى، فأمسك ددف بيدها الباردة وأجلسها إلى أقرب مقعد، ثم تحول إلى المرأة في غضب وقال بجفاء: كيف تؤاتيك الجرأة على توجيه مثل هذا الكلام إلى أمي أيتها المرأة التي أكرمتها وأنقذتها من عذاب الأسر؟
وكانت المرأة تلهث بشدة كالمحتضر، فتأثرت لكلام القائد الذي أنقذها، وأرادت أن تتكلم، فأعياها الحصر، فما استطاعت إلا أن تشير إلى أمه كأنما تقول له: سلها هي.
فانحنى الشاب إلى أمه بحنو وسألها برقة: أماه ... هل تعرفين هذه المرأة؟
Halaman tidak diketahui