على أن زياراتها لقصر الأمير لم تكن تقطع جميعا بأمثال هذا الحديث المضني؛ ففي يوم من الأيام المعدودة في العمر - وكان قد مضى على رحيل الجيش المصري عشرون يوما - وجدت الأمير مغتبطا راضيا، ورأت وجهه الصلب يلين عن ابتسامة قليلا ما ترى عليه، فخفق قلبها وطار خاطرها إلى الحبيب البعيد، فسألت شقيقها: ما وراءك يا صاحب السمو؟
فقال: بلغتني أنباء سارة تقول إن جيشنا حاز انتصارات باهرة، وإنه عما قليل يقتحم حصن العدو.
فصاحت به: زدني من هذا النبأ السعيد! - يقول الرسول: إن جنودنا تتقدم مدرعة بالقباب حتى صارت على قيد أذرع من السور، واستحال على رجال القبائل الظهور على السور، ومن تحدثه نفسه منهم بالمجازفة ترديه نبالنا قتيلا.
وكان هذا النبأ أسعد ما سمعت من شقيقها في حياتها، وقد تركت قصر الأمير قاصدة إلى معبد بتاح، وصلت إلى الرب العظيم ودعت للجيش بالنصر ولحبيبها بالسلامة، واستغرقت في صلاتها استغراقا عميقا، لا يعرفه إلا المحبون، وعادت إلى القصر الفرعوني يدب في قلبها الجزع، الذي يقل صبره كلما دنا من غايته.
29
وكانت الجنود المصرية قد دنت من السور الحصين، واستطاعت أن تمسه بأسنة رماحها، وأحاط به الرماة من كل جانب مسددين قسيهم كلما ظهر رجل أردوه قتيلا، ولم يجد العدو من حيلة إلا أن يلقي عليهم الأحجار، وأن يسدد نباله ليصيد بها من يعتلي السور منهم، وظلوا على تلك الحال زمنا يسيرا، وكل فريق يتربص لغريمه، وفي فجر اليوم الخامس والعشرين للحصار أصدر ددف أمره للرماة بالهجوم العام، فانقسموا طائفتين؛ واحدة لمراقبة السور وأخرى تقدمت مستظلة بحماها يحمل رجالها السلالم الخشبية والدروع الطويلة والقسي والسهام، وأسندوا السلالم إلى السور وصعدوا أدراجها ناشرين أمامهم الدروع كأنها الأعلام، ثم أثبتوا الدروع على السور فبدا كحائط الحصون المصرية المدرع بالقباب، وتلقوا بها آلاف السهام التي ترامت عليهم من كل حدب وصوب، وتساقط منهم عدد غير يسير، وأجابوا عدوهم بسهام لا تطيش ملأت الجو أزيزا مخيفا، وعلا الصياح يشق عنان السماء، واختلط هتاف الفوز بأنات الألم وصراخ الرعب، وفي أثناء القتال المستعر هجم فريق من المشاة يحملون جذوع النخل صوب الباب الكبير، وصكوه صكا شديدا دوى دويا مرعبا ...
وكان ددف يقف على ظهر عربته الحربية، يرقب القتال بعينين قلقتين وقلب متحفز للقتال، وكان يقلب وجهه بين الجنود المعتلية للسور، والمتوثبة لاعتلائه، وبين الهاجمين على الباب الضخم الذي بدأت تتزعزع أركانه ويضطرب بنيانه.
وبعد زمن ليس باليسير رأى الرماة يقفزون داخل السور، ورأى المشاة من حاملي الرماح يصعدون السلالم، ورماحهم مجردة ودروعهم مشهرة فعلم أن العدو أخذ يخلي مواقعه خلف السور ويتقهقر داخل شبه الجزيرة.
ومرت ساعة على قتال عنيف وانتظار جزوع، وكانت فرقة العربات - وعلى رأسها القائد الشاب - تنتظر صفوفا، ولم يلبث أن فتح الباب على مصراعيه بعد أن رفع الجنود المصريون بداخل السور مزلاجه، وأمر ددف سنفر بالهجوم، فترك للجوادين العنان، وانطلقت خلفه العربات تجلجل جلجلة الجبل المنهار، وتثير خلفها ريحا من النقع والرمال، واجتازت الباب عربة عربة، وكانت تنعطف واحدة إلى اليمين والأخرى إلى اليسار، فرسمت جناحين مديدين يلتقيان في عربة القائد، وهاجمت العدو كقبضة يد هائلة تهصر عصفورا هزيلا، وفي أثناء ذلك احتل الرماة الأماكن الحصينة والتلال العالية، وتقدمت فرقة الرماح لتحمي مؤخرة العربات، وتقاتل من يلتف للإحداق بها.
وكان سنفر يقود عربة القائد ببسالة وثبات، وكان ددف يطلق سهامه التي لا تخيب فتعرف مستقرها في الرقاب والقلوب، وقد ولى العدو الأدبار، ومن تخلف منهم انقض عليه الجنود الزاحفون برماحهم، فلم ينج من الموت إلا هارب أو أسير أو جريح.
Halaman tidak diketahui