وألقى على المكان العزيز نظرة ملؤها الحنو، وساءل نفسه المشوقة: أين الفلاحة ذات العينين الفاتنتين؟ ترى هل تذكره؟ أم هل لا تزال تجد عليه؟ وهل ما يزال رجاؤه لديها عسيرا؟ أيستحيل أن يلقى حبه صدى في قلبها؟ ولكن أين هي؟
إن البقعة خلاء لا تجيب، صماء لا تلبي نداء، فما من معين على البلوى أو صارخ على الشكوى، والقلب يستشعر وحشة، ويحس بدبيب الخيبة، ويجثم عليه روح تشاؤم وقنوط.
والوقت - إذا غره الأمل لا يزال أمامه متسع لمجيئها - يمر ثقيلا بطيئا، وإذا خيل إليه القنوط أن موعدها انقضى أحس بالزمن ينطلق انطلاق السهم، وكأن الشمس تركب عربة سريعة تعدو بها إلى الأفق الغربي.
ومضى يحوم حول المكان الذي رآها فيه أول مرة، وجعل ينظر إلى الحشائش الخضراء طمعا أن يرى أثرا لصندلها أو سحب ذيلها، ولكن الحشائش لم تحفظ من جسمها اللدن أكثر مما حفظ الماء من ساقيها!
ترى هل تواظب على زيارة هذا المكان كما كانت تفعل من قبل، أم أنها زهدت في نزهتها زهدا في رؤيته؟ أين هي؟ وكيف السبيل إليها؟ هل ينادي بغير اسم؟ هل يصرخ في الفضاء؟ وجعل يدور حول المكان الحبيب حائرا، نافد الصبر، يتقاذفه القنوط والأمل ... ولاحت منه التفاتة إلى السماء فرأى الشمس تميل إلى الأفق، ورأى توهجها يخبت فتقدر العين على النظر إليه كأنها جبار مارد أذلته الشيخوخة، وأطمعت فيه الضعفاء، فذوى أمله وغرق في لجة اليأس، واعتلاه حزن شديد، وولى وجهه شطر الحقول فرأى هيكل قرية، فشخص إليها وما يدري ما يفعل، وفي منتصف الطريق التقى بفلاح آئب بعد جهد النهار الواصب، فسأله عن القرية، فقال الرجل وهو ينظر إلى بدلته باحترام: «هي قرية آشر يا سيدي.» فكاد من اليأس أن يريه الصورة الساكنة على صدره ويسأله عن صاحبتها.
واستأنف رحلته، ولم تكن له غاية محدودة، ولكنه وجد في السير راحة لم يجدها في الوقوف والدوران، وكأن الأمل الخلب الذي غرر به ساعة على شاطئ النيل طار إلى ربوع تلك القرية فاتبع أثره. وكان مساء لا ينسى؛ فقد اخترق طرقات القرية يقرأ الوجوه ويسائل الديار، فأثار منظره الفضول ولفت جماله الأنظار، واتجهت إليه العيون من كل صوب، وما لبث أن وجد نفسه يسير وسط أمة من الفتيات والغلمان والصبيان، وأخذ يعلو الحديث والهتاف، وما وجد لضالته أثرا، فتحاشى أهل القرية وغادرها سريعا، وأسرع الخطى نحو النيل في ظلمة من النفس وظلمة من الكون.
كان حزينا، يائسا، تحرق اللوعة صدره، وتمزق الحسرة قلبه، وقد ذكرته حاله بمأساة الربة إيزيس حين ذهبت تبحث عن أشلاء زوجها أوزوريس التي نثرها ست في تضاعيف الرياح، وقد كانت الأم إيزيس أسعد حظا منه، أما هو فلو كانت حبيبته طيفا من أطياف الأحلام، لكان الأمل في العثور عليه أدنى إلى قلبه.
أحب ددف الجميل، ولكنه كان حبا غريبا، حبا بلا حبيبة، حبا ليس عذابه الصد أو الخيانة أو ويلات الزمن وكيد الناس، لكن عذابه أنه بلا حبيبة. كانت حبيبته كنسمة هائمة حملتها ريح هوجاء وذهبت بها إلى حيث لا يعلم إنسان. فقلبه ضائع لا يعرف له مستقرا، لا يدري إن كان قريبا أم بعيدا، لا يدري إن كان بمنف أم في أقصى بلاد النوبة، فيا لها من أقدار قاسية تلك التي حولت عينيه إلى تلك الصورة التي يحتفظ بها على قلبه، كانت أقدارا قاسية تعرفها الأرواح الشريرة التي يطيب لها عذاب البشر. •••
وعاد إلى البيت والتقى بأخيه نافا في الحديقة، فقال الفنان: أين كنت يا ددف؟ لقد طالت غيبتك. ألم تعلم أن خنى في حجرته؟
فقال ددف بدهشة: خنى! ... أحقا ما تقول؟ ولكني لم أجده حين مجيئي.
Halaman tidak diketahui