وجاء خادم فأدنى منا أخونة صغيرة عديدة، وسألنا: ما تشربون؟ فنظر بعضنا إلى بعض، وقلت: أنا «صودا». فقال صديق لي: «لا يا شيخ، بل ويسكي وصودا.» فقلت لنفسي: «لا بأس، أتركه أمامي وأتناول كل ساعة رشفة فلا يضيرني.» وشرع الخادم يملأ الأقداح، ثم أخذ يجيء بالأطباق المترعة ويضعها أمامنا، ويرتبها ويفسح لها - لكثرتها - وأنا لا أكاد أطيق النظر إليها من فرط الشبع، ولا إليه أيضا، وبقينا هكذا نحو ساعة، وأنا ساكت، صابر، وإذا بحورية هاربة من الفردوس تدخل علينا، وإذا بنا نثب إلى أقدامنا، وقد التمعت عيوننا، وأعدتنا، فأشرقت وجوهنا، وانطلقت ألسنتنا الخرساء وانحلت عقدتها.
وجلست الحورية بجانب واحد غيري، فأسفت لأني آثرت التواضع - لعنه الله - واخترت مقعدي في ركن، وتحسرت على «الصدر» الذي تركته لصاحبي، ولكني عزيت نفسي بأني أراها، ورفعت كأسها، فقلت: أشاربها ولو زهقت روحي، ثم سألتها: «من أي الفراديس هربت يا حورية ؟» فضحكت وغمزت بعينيها ولم تقل شيئا، فلم أنهزم، فقلت: «بأي لغة تتكلمين في الجنة؟» فعادت تضحك، ولا تجيب، فاستغربت، ونهضت إليها وقلت بلهجة الجد: «أريني لسانك.» فأخرجت لسانا دقيقا حلوا، فهززت رأسي مسرورا، وعدت، وسألني جاري - وهو أديب عراقي: «لماذا فعلت هذا؟» قلت: «أردت أن أطمئن. سأدخل الجنة بعد عمر طويل، فإذا كانت حورياتها بلا ألسنة، فإن هذا يكون خازوقا.»
ودخلت في هذه اللحظة حورية أخرى، أقصر من الأولى، ولكنها مثلها اعتدال قد، وهيفا ورشاقة، وفي أثرها خمسة من الرجال يحملون آلات العزف، ودار الحديث، وتكرر ارتفاع الكئوس إلى الشفاه، وحارت العيون بين هذين الوجهين الملائكيين، وأصلحت الأوتار، وضرب العواد على كرانه وشيع آخر في الناي. ثم اشتركت المعازف جميعا في أحلى صوت وأشجى لحن. ثم غنتنا الحورية الثانية صوتا مصريا كان ابتداؤها به تحية جميلة، فطربنا وأثنينا، وشكرنا، واقترحنا أن تسمعنا أصواتا عراقية، فقالت: «حبا وكرامة.»
ونهضت الأولى فخرجت، وغابت شيئا، ثم عادت في ثوب رقيق هفهاف شفاف من الحرير، ونظرت إلى الرجال، فعزفوا لها صوتا رقصت على أنغامه رقصا أدار رءوسنا وخطف أنفاسنا، وكانت تلف، وتنآد من بعد أن تنأطر، وتجثو بساق ثم تنهض كالرمح، وتدفع يديها البضتين، وتجعل من معصميها نطاقا لغير موجود، كأنما تدعوه أن يهتصر، ويموج شعرها على عطفها، ويكاد - لولا ما يمسكه - أن يسقط عنها الإزار، وكان يخيل إلينا، وهي تجلو مفاتنها، أنها ذائبة من الرقة، ومبرية من الشجى، فلما جثت على ركبة في آخر دورة، وكلتا يديها لنا، كبر هذا الوهم في نفوسنا، فنهضنا إليها لنعينها ونرفعها، فضحكت.
وجلست على كرسي بجانبي. فقلت لها - وكنت قد عرفت اسمها الأرضي: «يا نزهة. اعلمي أن رقصك جميل، واعلمي أيضا - وهذا هو المهم - أني أقدر على مثله.»
فرفعت حاجبيها نصف ملليمتر، وقالت: «صحيح؟»
قلت: «بلا أدنى شك. وهل أنا أكذب؟ لكن ينبغي لذلك أن تهبيني هذا القوام، نعم، أعطيني جسمك، وخذي جسمي فارميه للكلاب.»
فضحكت وقالت: «العفو، ولكن أنا، ألا يبقى لي جسم؟»
قلت: «هو معي يا حورية، أليس يكفيك الروح؟ ما حاجتك في الفردوس إلى جسم بعينه؟ اكتسي غيره هناك.»
قالت: «جسم بلا روح، ما يحرز.»
Halaman tidak diketahui