Burhan Fi Wujuh Bayan
البرهان في وجوه البيان
Genre-genre
وأما الأخذ بالمشهور من الحديث والقول وحكايته، وترك الغريب والمنكر منهما، واجتناب روايته: فإن المنفعة في ذلك عظيمة، والفائدة جسيمة، وذلك إنك تحرز به النبل في عيون الناس، والجلالة في صدورهم، ومتى أخذت بالشذوذ، وبالبديع والغريب من الأحاديث والروايات، وأحكمت ذلك، ونقلته كنت عند الناس غير محصل، ولا يغرنك: "إنما أحكي ما أسمع" فكفاك عيبا أن تحكي كل ما تسمع لأن أكثر ما تسمع الباطل، وإنما الحق جزء من أجزاء كثيرة مما تسمعه، وقد قيل: "حسبك من شر سماعه"، فكيف حكايته وفعله، ومن رضي بأن يكون حاملا للأباطيل، ورواية الأكاذيب، فقد رضي بما لا يرضى به اللبيب، فإن استطعت فلا تحكي إلا ما تصدق فيه، وما لا تحتاج إلى إقامة شاهد عليه فافعل، فهو أولى بك إن كنت من أهل التحصيل، وأردت أن تسلم من العيب والتجهيل، فقد روي عن بعض الأعراب أنه قال: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره، وإن كان عندك أعذاره، فليس كل من حكى عنك نكرا يوسعك عذرا، واحذر الحذر كله من شهوة الاستطراف، وطلب الغرائب، فإن كثيرا من الناس يطلب ما كان طريفا، ولم يكن عند الناس معروفا، وذلك لما في النفوس من التطلع إلى استماع ما يسمعوه، والكلف بما لم يعهدوه ويعرفوه، وكلما كان الشيء ليس عندهم كان إليهم أعجب، ومن قلوبهم أقرب، ومن هاهنا ضل كثير من الناس، ودخلت عليهم الشبهة في اعتقاداتهم ودياناتهم، فإنك إذا نظرت في كثير من مذاهب أهل المذاهب وجدتها لم تنفق على أهلها إلا بطرافتها # وغرابتها وامتناع دعاتهم في إظهارها لهم، والنفس طلعة، وهي ضنينة بما تمنعه، وليس عندها فيما قدرت عليه من الرأي والهوى مثل الذي عندها من الغريب المستطرف، وكل ما كان في ملك غيرها كانت إليه أشوق، ونحوه أتوق، ولهذا صار أزهد الناس في العالم جيرانه، وصار الإنسان بما استفاده منه أشد ضنا مما ورثه، فاحترس من هذا الباب، ولا تراعين في مستطرف من المور إلا ما كانت أمارات الحق فيه ظاهرة، والشكوك التي تعرضه واهية فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "شر الأمور محدثاتها وقال: وكل محدثة ضلالة" ولا يثقل عليك الحق، وإن كبر عليك استماعه، ولا تملنه وإن كثر على سمعك مروره، فإن الحق جديد لا تخلقه الأيام.
وأما المقبول والمردود: فإن المقبول كل ما أريد به المنفعة من الأمور التي ذكرناها وعددناها، وكانت القلوب له قابلة، وبفضل اقتنائه غير جاهلة.
Halaman 241