وتكاد تجمع الروايات أن أول من فكر بالجمع والتدوين من التابعين عمر ابن عبدالعزيز، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم عامله وقاضيه على المدينة "انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء" وطلب منه أن يكتب له ما عند عمرة بنت عبدالرحمن الأنصارية (98ه) والقاسم بن محمد بن أبي بكر (106ه) والذي يظهر أنه لم يخص ابن حزم بهذا العمل الجيل، بل أرسل إلى ولاة الأمصار كلها وكبار علمائها يطلب منهم مثل هذا، فقد أخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله فاجمعوه وبذلك نفذ عمر رغبة جده عمر ابن الخطاب التي جاشت في نفسه مدة ثم عدل عنها خوفا من أن تلتبس بالقرآن أو يصرف الناس إليها، والذي يظهر أن أبا بكر بن حزم كتب لعمر شيئا من السنة فقد أنفذ إليه ما عند عمرة والقاسم، ولكنه لم يدون كل ما في المدينة من سنة وأثر، وإنما فعل هذا الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (124ه) الذي كان علما خفاقا من أعلام السنة في عصره والذي كان عمر بن عبدالعزيز يأمر جلساءه أن يذهبوا إليه لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد أعلم بالسنة منه، والذي يظهر أيضا أن تدوين الزهري للسنة لم يكن كالتدوين الذي تم على يد البخاري ومسلم أو أحمد وغيره من رجال المسانيد، وإنما كان عبارة عن تدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مبوب على أبواب العلم، وربما كان مختلطا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد، وقد نستأنس لهذا بما روي عنه من أنه كان يخرج لطلابه أجزاء مكتوبة يدفعها إليهم ليرووها عنه، وبذلك كان الزهري رضي الله عنه أول من وضع حجر الأساس في تدوين السنة في كتب خاصة، بعد أن كان عدد من علماء التابعين يكرهون كتابة العلم خشية من ضعف الذاكرة، بل كان الزهري نفسه في بدء شهرته العلمية يكره كتابة العلم ويمتنع عنه، حتى رغب إليه بذلك عمر بن عبدالعزيز، وسيأتي معنا مزيد بيان لهذا البحث عند الكلام عن الزهري. ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري.وكان أول من جمعه بمكة: ابن جريج (- 150ه). وابن إسحاق (-151ه). وبالمدينة سعيد بن أبي عروبة (-156ه). والربيع بن صبيح (-160ه) والإمام مالك (-179ه) وبالبصرة حماد بن سلمة (-167ه) وبالكوفة سفيان الثوري (-161ه) وبالشام أبو عمرو الأوزاعي (-157ه) وبواسط هشيم (-173ه) وبخراسان عبدالله بن المبارك (-181ه) وباليمن معمر (-154ه) وبالري جرير بن عبد الحميد (-188ه) وكذلك فعل سفيان بن عيينة (-198ه) والليث بن سعد (-175ه) وشعبة بن الحجاج (-160ه). وهؤلاء جميعا كانوا في عصر واحد ولا يدري أيهم سبق إلى ذلك، وكان صنيعهم في التدوين أن يجمعوا حديث رسول الله مختلطا بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، قال الحافظ ابن حجر: إن ما ذكر إنما هو بالنسبة للجمع في الأبواب، وأما جمع حديث إلى مثله في باب واحد فقد سبق إليه الشعبي فإنه روي عنه أنه قال: هذا باب من الطلاق جسيم".ثم جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السنة وأسعدها بأئمة الحديث وتآليفهم العظيمة الخالدة . فقد ابتدأ التأليف في هذا القرن على طريقة المسانيد: وهي جمع ما يروي عن الصحابي في باب واحد رغم تعدد الموضوع، وأول من فعل ذلك عبدالله بن موسى العبسي الكوفي، ومسدد البصري، وأسد بن موسى ونعيم ابن حماد الخزاعي، ثم اقتفى أثرهم الحفاظ فصنف الإمام أحمد مسنده المشهور.
Halaman 19