وهنا ننتقل انتقالا طبيعيا إلى «الجذر» الثاني من جذور الضعف في حياتنا، وهو «التعليم» وقد ألتمس ألف عذر للقائمين على إصلاحه؛ لأن العبء أثقل من أن يحمله رجل واحد، أو جيل بأسره، لكن ذلك لا يمنع، بل هو الذي يبرر أن نتقدم بما نراه في هذا الصدد، والذي نراه هو أن جميع ما نبذله من جهود إصلاحية منصب على مواد التدريس، ما الذي نقرر دراسته هنا، وما الذي نقرر دراسته هناك؟ وهل المقررات في مستطاع التلميذ أو فوق مستطاعه؟ وكم يكون طلاب الدراسة النظرية المؤدية إلى الجامعات، وكم يكون منهم من نوجهه إلى قنوات التعليم الفني، وما إلى ذلك، وكلها مشكلات جادة وفي الصميم، لكن هذا الكاتب إذ ينظر إلى الأمر، فإنما يتجه نظره إلى صميم الصميم، فكل المواد الدراسية على اختلافها، هي مواد «علمية» بوجه أو بآخر، وكل وقفة علمية تنطوي على منهج في التفكير يتناسب مع الفكرة العلمية كما نتصورها اليوم، فما لم يخرج المتعلم ملما بالمادة العلمية من جهة، ومتشربا للمنهج العلمي من جهة أخرى، فسوف نظل من وجهة النظر الحضارية حيث نحن واقفون أو راجعون إلى الوراء. والحاصل الآن هو أن المتعلم - على أحسن الفروض - يلم بمادته العلمية المقررة، ولا يتشرب منهاجها، فيخرج آخر الأمر قادرا على ممارسة حرفته أو مهنته، لكنه عاجز كل العجز عن المحافظة على «النظرة العلمية»، ليمارس بها سائر جوانب حياته خارج حدود حرفته أو مهنته، ومن ثم وقع ما نراه من أن الحياة الحرفية والمهنية، قد لا تكون شديدة العطب، لكنها حياة يجاورها جنبا إلى جنب حياة تسودها «الخرافة» فيما هو خارج الحدود الحرفية والمهنية. لا، بل إن المأساة لتعظم حين يرى الجمهور البريء أحد «العلماء» - خارج حدود علمه - يحيا مع ذلك الجمهور في براءته من حيث سهولة الأخذ بما هو مضاد لأي نظر علمي، فيقول الجمهور عندئذ: انظر! هذا هو العالم العلامة يقول كذا وكذا، فمن ذا الذي يجرؤ بعد ذلك على التشكك في صدق ما يقول، مع أن قوله المشار إليه هو مما يهدم العلم هدما لو صدق.
ويقترن غياب النظرة العلمية في حياتنا العامة، بفقر في «المعرفة»، فقر يلفت النظر، فحياة الناس لا تستقيم بالعلوم وحدها وما يقوم على العلوم من صناعة وزراعة وغيرهما، بل لا بد لها كذلك من «معلومات» عن حقائق الدنيا المحيطة بنا، فيكون الفرد من متوسط الناس على علم بالاتجاهات العامة في سياسات البلاد التي نتأثر نحن بها على وجه الخصوص، وعلى علم بالتيارات العامة في النظم الاقتصادية والفكرية، وعلى علم تقريبي بما يتجه به العالم نحو التغيير، وعلى علم بأوجه الضعف في الأوضاع الحضارية القائمة، وعلى وعي بحقوق الإنسان الأساسية على الأقل، وهكذا وهكذا، فكل هذه الجوانب لا شأن لها بالتخصصات العلمية والمهنية والحرفية، لكن لها الشأن كل الشأن بدرجة الوعي عند المواطن العادي؛ إذ يكتسب بها قدرة على النقد الذاتي، وقدرة على ممارسة الديمقراطية ممارسة واعية.
وهذه الإشارة إلى وعي المواطن بحقوقه، تنقلنا إلى ثالث «الجذور» التي تنبتها في حياتنا ما قد أسلفناه من «بذور»، فبين الحقوق الأساسية حق «الحياة» ذاتها، لكننا لا نقف طويلا عند هذا الحق وما يعنيه؛ إذ ربما وقف بنا الظن عند حدود الحياة العضوية، من تنفس وطعام ومشي وقيام وقعود، مع أن الحياة بهذا المعنى مفروضة لا تحتاج منا إلى إعلان وميثاق يلتزمه الناس، وإنما يبنى على هذه الحياة العضوية حقوق ما أكثر ما نجهلها أو نتجاهلها، وفي طليعة تلك الحقوق، حق المواهب في أن تنفسح أمامها فرص النماء والازدهار لتفعل فيها، وانظر إلى حياتنا العلمية باحثا عما نؤديه لأصحاب المواهب، بدءا من الطفل الموهوب فصعودا إلى صاحب الموهبة فيمن بلغ الرشد، تجدنا أقرب إلى طمس الموهبة في برعمها خشية منا أن تتفتح زهرة فيظن صاحبها بنفسه الظنون، إن صاحب الموهبة في حياتنا إذا صمد، فإنما يصمد رغم المجتمع وليس بسبب تشجيع المجتمع، وقد يكون الأمر على غير ذلك في عالم الفن التعبيري كالموسيقى والغناء والتمثيل - لا أدري - لكنه يقينا هو كذلك في حياة العلم والأدب الرفيع والفن التشكيلي الذي لم يدخل حياة الجمهور، فإذا استطاع صاحب الموهبة الخارقة أن يصمد لعمليات التشكيك والخنق، فماذا نقول في المواهب التي هي دون الخوارق بكثير أو قليل؟ وهل من عجب بعد ذلك أن نرى شبابنا - بصفة عامة - قد ضاعت منه حيوية شبابه، فلا مغامرة ولا طموح ولا تفاؤل، بل هو هو شبابنا الذي يرفع فينا لواء العودة إلى وراء.
ورابع «الجذور» هو أن نجد حياتنا الثقافية اليوم كالسفينة، سبحت على سطح المحيط بغير «دفة» تحكم لها اتجاه السير ابتغاء الوصول إلى مرفأ آمن، إنها ثقافة - كما أسلفنا - كلا ثقافة؛ لأنها سير ولا هدف؛ لأن الذي يتحكم في سيرها ليس هو الربان المدرب، بل هي الأهواء الغوغائية في كثير جدا من الأحيان، وماذا نعني بالأهواء في هذا السياق؟ نعني الاحتكام إلى غير «الواقع»، فبدل أن ننظر إلى المشكلة التي يراد حلها نظرة موضوعية إلى عناصرها كما هي واقعة بالفعل، ترانا ننكفئ على بواطن نفوسنا لنرى هناك عاطفة تنعطف بنا منجذبة بالرغبات، والرغبات - كما نعلم - عمياء، لا تريد أن ترى مرارة الواقع، وغلظة الواقع، وخشونة الواقع، لا، إنها تغض النظر عن هذا كله لتحلم وتعيش أحلامها موهمة نفسها بأن أحلامها تلك هي هي الواقع بكل صلابته وبرودته! من ذا الذي لا يعلم منا علم اليقين أن جمهورنا تغلب عليه الأمية، وفقر المعرفة بحقائق العالم الخارجي؟ ومع ذلك نضحك على أنفسنا ونضحك على ذلك الجمهور نفسه، لنوهمه بأنه هو صاحب الرأي والتوجيه، نعم وألف مرة نعم، إنه صاحب الرأي والتوجيه في اختياره لمن ينوب عنه في معالجة مشكلاته؛ لأن التفرقة بين معادن الرجال أمانة وخيانة، صدقا وكذبا، تكاد تكون تفرقة يهديها الإدراك الفطري، حتى إذا ما كان الأمر أمر المشكلات ذاتها: في السياسة، والاقتصاد، والنظم الحضارية، وغيرها، وغيرها، لم يكن مفتاح القدرة عندئذ في أيدي أصحاب الإدراك الفطري السليم، بل لا بد أن يوكل الأمر فيه إلى من كان لهم إحاطة بشيء من العلم الخاص بكل مشكلة وما تقتضيه، إن موضع المشكلات هو «الواقع» وكذلك ينبغي أن يتولى أمور حلها أولئك الذين تعلموا كيف يعالجون «الوقائع» معالجة تبنى على عقل علمي قادر، بل إن الانحراف ليذهب بنا إلى ما هو أبعد من ذلك، بحيث ترانا - إذا حللت الموقف بدقة - نكاد نلغي وجود الواقع إلغاء، لنتعامل مع أوهام صورتها لنا أهواؤنا، وفي ذلك ما فيه من مفارقة تلفت النظر؛ وذلك لأن المصري مزارع وصانع بالدرجة الأولى، والزراعة والصناعة وما إليهما تحتاج إلى دقة الإلمام بتفصيلات الأرض التي نزرعها أو المادة التي نصنعها، ومع ذلك فلم تتكون عند المصري العادي نظرة واقعية شاملة، بل قصر نظرته الواقعية على ميدان حرفته، ثم ترك العنان لشطحاته الهوائية بعد ذلك، وربما كان السر في هذه المفارقة هو أننا بحكم العادة لا ننتبه إلى ضرورة تدريب حواس الطفل على حسن إدراك ما حوله، صحيح أن الطفل بحكم طبيعته ذاتها يدفعه حب الاستطلاع، أن يعرف حقيقة ما حوله من أشياء، إنه يحطم الأواني وغيرها مما يراه حوله من أشياء ما استطاع لها تحطيما؛ لأنه يريد أن يعرف شيئا عن حقيقتها: إنه بعد أن يألف صلابة المادة، قد يوضع في حوض الاستحمام فيلحظ فرقا بين ليونة الماء وما قد عهده من صلابة في سائر الأشياء، فتأخذه فرحة من استكشف حقيقة جديدة، ويأخذ في ضرب الماء بذراعيه ورجليه، ليزداد إدراكا واستمتاعا بذلك الفرق الذي كشف عنه الحجاب، تلك هي طبيعة الطفل في حبه لاستطلاع حقائق الأشياء، لكن فطرته تلك - كأي جانب آخر من جوانب الفطرة - يحتاج إلى التهذيب والإرهاف عن طريق التربية، فلا بد أن تدرب العين على رؤية أوجه الشبه بين المختلفات، وأوجه الاختلاف بين المتشابهات، ولا بد للأذن أن تدرب على التفرقة بين صوت وصوت، وأن توجه نحو النغم الموسيقي لتدرك الفرق بين أصوات تقاطعت فلا تطرب، وأصوات تناغمت فتطرب، فلو أننا تنبهنا في تربية أطفالنا لضرورة تدريب الحواس، لنتج عن ذلك بالضرورة اهتمام «بالواقع»؛ لأن الحواس لا تعمل إلا في مجال الوقائع؛ فالعين إذ ترى فإنما ترى «شيئا» والأذن إذ تسمع، والأصابع إذ تلمس، إنما تسمع أو تلمس «شيئا»، فنكون بهذا التدريب للحواس بمثابة من يشد انتباه الطفل إلى دنيا الواقع، فيتعود فيما بعد أن يحتكم إلى الواقع في الحكم على الأفكار صوابا أو خطأ.
وخامس «الجذور» هو ما يسودنا اليوم من رغبة في الجمود الفكري، وكأننا بذلك نعاند عصرا يتغير في كل يوم بما ينتجه من جديد، ولما كان التغير الدائب مؤديا بالضرورة إلى التفكير في «المصير»، كان مما يلفت النظر ما نلحظه من ميل سائد في مجتمعنا نحو العودة إلى الماضي، نحتكم إليه في أمور حاضرنا فيضيع منا المصير؟ كمن يلوي عنقه لينظر وراءه، فلا يرى فجوة شقت الأرض أمامه إلا بعد أن يقع فيها.
ولا أمل لنا في القضاء على هذه النظرة الورائية، إلا بحركة قوية نحو «التنوير» وما التنوير سوى السير نحو النور، والطريق إلى التنوير هو تربية وتثقيف وإعلام، تتآزر كلها على الإعلاء من شأن «العقل»، كلما أردنا أن نرسم لأنفسنا سبيلا يحقق لنا هدفا.
والله ولي التوفيق.
زكي نجيب محمود
يناير 1989م
نافخ النار
Halaman tidak diketahui