المثال الإلهي هو «النور» ويعادل ذلك أن يكون هو «العلم بكل شيء»، وأما المثل البشري فهو «التنوير» وبالتالي فهو العلم بشيء دون أشياء وأشياء، فمعنى «التنوير» هو أن يسير نحو النور سيرا يستهدف المثل الأعلى دون أن يبلغه، وهو سير تتحرك فيه إلى أمام وإلى أعلى تلك المراحل الثلاث التي رسمتها آية النور، وهي مرحلة الحس والإدراك الحسي «وهما المشكاة والمصباح»، فمرحلة الإدراك العقلي «التي هي الزجاجة أو الكوكب الدري»، ثم مرحلة أخيرة تجاوز حدود الحس والعقل معا، وأعني بها مرحلة الإدراك «الحدسي» المباشر، وإن شئت فقل عنه إنه إدراك روحاني أو إدراك بالقلب، فلا هو يتوسل بوسائل الحواس وحدها، ولا هو يعتمد على العقل وحده، وإنما هو إدراك يجاوز حدود الحس والعقل ليخترق الحجب فيرى من جوانب الحق ما لا يراه حس، ولا هو مما ينخرط في قوالب المنطق العقلي بمبادئها وقوانينها الحادة الصارمة، فإذا شئنا عبارة مختصرة تصف عملية «التنوير» قلنا إنه هو الارتفاع بالإنسان درجة درجة في استخدامه لحواسه، لتصبح له مصدرا لمعرفة دنياه، ثم الارتفاع به في استخدامه لعقله استخداما يتيح له الركون إليه، فلا يجعل من نفسه تابعا لغيره فيما هو صحيح وما هو باطل، وأخيرا الارتفاع به في قدرته على الإبداع؛ لأنها هي نفسها القدرة على أن يجاوز حدود «الواقع» إلى ما هو أسمى منه وأرفع: تراها في إيمان المؤمن، وفي لمعة الشاعر، وفي لمحة الفنان، بل إنك لتراها كذلك في رجل العلم بعد أن يجمع معلوماته الأولية عن موضوع بحثه؛ ليضعها بين يديه محاولا أن يجد لها «النظرية» التي تضمها معا تحت تفسير واحد، ففي اللحظة التي يشرق له في ذهنه «فرض» يفرضه لعله يصح في التفسير المطلوب، تلمع في ذهنه الفكرة وكأنها إلهام هبط عليه من السماء.
ولقد شهد التاريخ عصورا تميزت عما سواها بوهج «التنوير» في حياة الناس الإدراكية: من تزايد في محصول المعرفة بالعالم، ومن كشف وراء كشف للقوانين العلمية التي تجري على منوالها ظواهر الكون. ومن إرهاف البصيرة المبدعة إيمانا وأدبا وفنا، وفي كل عصر من عصور التنوير تستطيع أن ترى كيف أخذت معارف الناس تزداد على مدى فترة من الزمن تطول قرونا أو تقصر عقودا من السنين، حتى إذا ما بلغت تلك الزيادة في محصول المعرفة حدا معينا تفجرت ينابيع الإبداع.
ففي تاريخ الفكر الإسلامي لم يكد يمضي على الرسالة الدينية الجديدة قرن واحد، حتى نشطت حركة التجميع لأطراف المعارف ومعها حركة التقنين العلمي، وكان ذلك ملحوظا في علوم اللغة وفي الفقه ثم في نقل ثقافات الآخرين، فلما أن جاء القرن العاشر وامتداده في الحادي عشر «الرابع الهجري والخامس»، بلغ «التنوير» ذروته، فكانت رسائل «إخوان الصفا» بمثابة دائرة المعارف، التي هي عادة رمز يشير إلى التنوير من ناحية جمع المعلومات، وكانت الفلسفة قد بلغت ذروتها عند الفارابي وابن سينا مما يشير إلى سلطان العقل، وكان مع الفلسفة في تلك الإشارة إلى سلطان العقل حركة قوية في النقد الأدبي، وإذا قلنا «النقد الأدبي» بالنسبة إلى السلف، فكأننا قلنا إنه «العقل» بتحليلاته العلمية التي لم يكن الركون إلى أحكام «الذوق» فيها، إلا بمثابة «الحلية» الصغيرة توضع على الثوب العريض، بل إن الشعر ذاته قد غلبت عليه النظرة الحكمية التي تطل على الإنسان من أعلى لتكشف الستر عن حقيقته، وإن أبا العلا المعري وشعره لأبلغ شاهد على ذلك.
وفي التاريخ الأوروبي الحديث ما يشبه ذلك، فنحن نعلم أن القرن الثامن عشر منعوت عندهم بأنه عصر «التنوير»، فماذا كان فيه وما الذي كان فيما سبقه؟ أما ما سبقه فنهضة ثائرة وجارفة بدءا من القرن الخامس عشر، أراد بها الناس أن يحطموا قيود العصور الوسطى التي جنحت بالإنسان، نحو أن تعتقل قدراته الإدراكية في صفحات كتبها السابقون، فجاءت النهضة لتخرج الناس إلى رحاب الكون الفسيح ليواجهوا الدنيا مواجهة مباشرة، فكانت الكشوف الجغرافية في البحر والبر، وكانت جولات المناظير الفلكية في السدم والنجوم والكواكب، وكان تغلغل الفكر الفلسفي في خفايا العقل، ليرى حقيقة ذلك العقل وكيف يعمل وما حدوده؟ وكان وكانت مما ازدادت به معارف الناس، حتى إذا ما جاء القرن السابع عشر ويسمونه «عصر العقل»، وحسبك أنه عصر ديكارت والديكارتيين، لكنه عقل اقتصر عندئذ على الصفوة، فجاء القرن الثامن عشر ليكون هو عصر «التنوير»، الذي يشد جمهور الناس شدا ليدخلوا مع الصفوة في دائرة العقل، وعلى رأس «التنوير» كان فولتير، وكانت المعارف الموسوعية ثم كان هناك في ذروة الجبل مع السحاب «عمانوئيل كانط» فيلسوف العصور الحديثة فيما قبل عصرنا القائم، الذي التفت بالعلم لفتة جديدة، فالتفتت معه الفلسفة المعاصرة لتسايره في اتجاه واحد، وللفيلسوف كانط مقالة يحدد فيها معنى «التنوير»، ترجمها إلى العربية صديقي الأستاذ الدكتور عبد الغفار مكاوي، ورد فيها تعريف «التنوير» على الوجه التالي: «التنوير هو خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، وهذا القصور هو عجزه عن استخدام العقل.»
لقد كان لي في مصاحبتي للآية الكريمة آية النور خير وبركة، فعلى ضياء أنوارها رأيت ما لم أكن رأيته بكل هذا الوضوح، فيما قد يعنيه: «التنوير» في حياة البشر.
عن العقل ونضجه «1»
جاءتني الرسالة الآتية بغير توقيع وبغير تاريخ:
قرأت المقال الذي كتبته في جريدة الأهرام الصادرة في يوم 87/2/10 تحت عنوان «الكتيبة الخرساء»، كما اعتدت أن أقرأ لك منذ أن كان لي حظ الاتصال بك عبر الكلمة، في أربعينيات هذا القرن، في كلية الآداب بجامعة القاهرة «فؤاد الأول»، في ذلك الوقت الذي نعمنا فيه برواد عظام: طه حسين، ومصطفى عبد الرازق، وشفيق غربال، والعبادي، ومحمد عوض، وأمين الخولي، وغيرهم، رحم الله من توفي منهم وأمد في عمر من بقي يروي بعض ظمئنا إلى الكلمة الصادقة والفكرة المستنيرة، أخشى أن تمسكني الذكريات عن التحدث عما قصدت التحدث إليك عنه.
أقول: قرأت المقال أكثر من مرة، كما اعتدت أن أقرا هذه المقالات حرصا على ألا تفوتني فكرة دون أن أستوعبها تماما، ووقفت كثيرا عند السطور التي جاءت في ذيل العمود الأول من المقال، ووقفت كثيرا وأكثر عن جملة بذاتها من خمس كلمات تقول: «فأما وقد نضج العقل الإنساني»، وتساءلت ما المقصود بنضج العقل الإنساني؟ ومتى يكون العقل الإنساني غير ناضج؟ ومتى يمكننا الحكم بثقة على أن العقل الإنساني قد نضج، أو أنه لم ينضج بعد؟ وهل المقصود بالعقل الإنساني هنا، عقل إنسان ما، أم عقل مجموعة من الناس، أم عقل البشر على الإطلاق؟ في مرحلة ما من رحلة البشرية، وقلت لنفسي: ما هي حالة النضج هذه؟ وهنا تمسحت بنهجك فضربت المثل، محاولا أن أشرح لنفسي ربما أفهم إذا قلنا إن البذرة قد استوت شجرة أو حتى شجيرة، فإننا نحكم بنضجها تماما إذا وصلت إلى حد ما من الاكتمال النباتي، بحيث أخذت شكلها المتعارف عليه، ولم يعد لها بعد ذلك نضج، ربما تطول بعض الشيء، أو تغلظ أعوادها، أو تكثر أوراقها أو تقل، ولكن شكلها الناضج وفسيولوجيتها قد وصلا إلى نقطة ليس بعدها نضج، وبالمثل إذا قلنا إن ثمرة البرتقال قد نضجت فإننا نعني مرورها في مراحل نباتية حتى تستوي في الشكل المعروف الذي يؤهلها للأكل أو للعصير أو غيره، بحيث إذا تركت هذه الثمرة على عودها بعد نضجها، أو قطعت ولم تستخدم، فسدت، وقد حدث الفساد لأن الثمرة قد بلغت حد النضج الذي ليس بعده نضج، فهل هذا ما يحدث بالنسبة للعقل الإنساني؟ بمعنى أنه نضج في مرحلة ما بحيث لم يعد له بعدها نضج؟
وإذا كان العقل الإنساني قد نضج في مرحلة ما من مراحل البشرية، ولتكن المرحلة التي أشرتم إليها في مقالكم هذا، فهل معنى هذا أن العقل الإنساني لم يكن قد نضج بعد فيما سبق من المراحل التاريخية؟ لم يكن العقل الإنساني الذي أبدع الحضارة اليونانية ناضجا، ولا العقل الإنساني الذي أبدع الحضارة المصرية القديمة، بل لم يكن العقل الإنساني للإنسان البدائي ناضجا، وقد واجه مشكلاته اليومية من ملبس ومأكل وأمن ودفاع ... إلخ، بل دلتنا الحفريات على أنه حتى هذا الإنسان قد أبدع الكثير من الفنون والآداب.
Halaman tidak diketahui