Bombshells of Truth
قذائف الحق
Penerbit
دار القلم
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٤١١ هـ - ١٩٩١ م
Lokasi Penerbit
دمشق
Genre-genre
قذائف الحقّّّ
بسم الله الرحمن الرحيم
«بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»
محمد الغزالي
Halaman tidak diketahui
المقدمة
من خمسين سنة، عندما عقلت ما يجرى حولى، أدركت أن نصف الإسلام ميت أو مجمد، وأن نصفه الآخر هو المأذون له بالحياة أو الحركة إلى حين!!
وأحسست أن هنالك صراعًا يدور فى الخفاء أحيانًا، وعلانية حينًا بين فريقين من الناس:
ـ فريق يستبقى النصف الموجود من الإسلام، ويدفع عنه العوادى، ويحاول استرجاع النصف المفقود، ويلفت الأنظار إلى غيابه.
ـ وفريق يضاعف الحجب على النصف الغائب، ويريد ليقتله قتلًا، وهو فى الوقت نفسه يسعى لتمويت النصف الآخر وإخماد أنفاسه وإهالة التراب عليه.
.. وكلما طال بى العمر كنت ألحظ أن المعركة بين الفريقين تتسع دائرتها وتشترك فيها إذاعات وأقلام، وجماعات وحكومات، ومناقشات ومؤامرات..
.. وكانت الحرب سجالًا، وربما فقد المؤمنون بعض ما لديهم، وربحوا بعض ما أحرزه خصومهم، وربما كان العكس، وفى كلتا الحالتين تنضم إلى معسكر الحق قوى جديدة وتنضم إلى معسكر الباطل قوى جديدة، ويزداد الصراع حدة وشدة كلما لاح أن الساعة الحاسمة تقترب..
ونحن نصدر هذا الكتاب فى ظروف شديدة التعقيد:
أعداء الإسلام يريدون الانتهاء منه، ويريدون استغلال المصائب التى نزلت بأمته كى يبنوا أنفسهم على أنقاضها..
1 / 5
يريدون بإيجاز القضاء على أمة ودين..
وقد قررنا نحن أن نبقى، وأن تبقى معنا رسالتنا الخالدة، أو قررنا أن تبقى هذه الرسالة ولو اقتضى الأمر أن نذهب فى سبيلها لترثها الأجيال اللاحقة..
من أجل ذلك نرفض أن نعيش وفق ما يريد غيرنا أو وفق ما تقترحه علينا عقائد ونظم دخيلة.
من حق المسلمين فى بلادهم أن يحيوا وفق تعاليم دينهم، وأن يبنوا المجتمع حسب الرسوم التى يقدمها الإسلام لإقامة الحياة العامة.
والإسلام ليس عقيدة فقط، إنه عقيدة وشريعة!
.. ليس عبادات فقط، إنه عبادات ومعاملات.
.. ليس يقينًا فرديًا فقط، إنه نظام جماعى إلى جانب أنه إيمان فردى.
إنه كما شاع التعبير: دين ودولة..
وإذا كان هناك فى ربوع الأرض الإسلامية من يعتنق اليهودية أو النصرانية فلن يضيره ذلك شيئًا. إذ إن حرية التدين من صلب التعاليم الإسلامية، وقد ازدهرت هذه الحرية فى أرجاء العالم الإسلامى جمعاء، عندما كانت مطاردة فى أقطار أخرى لا حصر لها..
والتاريخ شاهد صدق على ذلك.
.. ثم إن اليهود والنصارى رضوا بالعيش فى ظل حكم مدنى يبيح الزنا والربا والخمر وأنواع المجون، بل عاشوا فى ظل نظم يسارية ترفض الإيمان من أصله، فلا يسوغ أن يتضرروا من حكم إسلامى ينصف نفسه وينصفهم على السواء..
وأيًا ما كان الأمر فنحن المسلمين مستمسكون بحقنا فى تطبيق شريعتنا والاستظلال براية الإسلام فى شئوننا كافة، ولن نقبل نظامًا يساريًا ملحدًا، ولا نظامًا مستوردًا يسوى بين الأضداد، بين الكفر والإيمان، بين العفة والعهر، بين المعبد والخان، باسم الحرية.
وقد لاحظنا - محزونين غاضبين - أن اتفاقًا تم بين اليهودية العالمية، وبين
1 / 6
أقوى الدول النصرانية على ضرب الإسلام وإذلال أمته والقضاء الأخير على معالمه وتاريخه..
وأثبتت الأحداث أن الضمير الدينى عند " أهل الكتاب " قد فقد عدالته وطهارته نهائيًا [راجع الباب الثامن: " محنة الضمير الدينى هناك ". ففيه تفصيل شاف لهذه القضية] ..
فاليهود الذين مرنوا على أكل السحت وثبوا على أرضنا ليأكلوها بما فيها ومن فيها، ووراءهم أمدادًا هائلة من المال والسلاح تجيئهم من أمريكا وغير أمريكا..
والكنائس الغربية تبارك هذا السطو، وتعده تحقيقًا لأحلام العهد القديم، ومن أجل ذلك تحذف لعن اليهود من صلواتها - كما أمر البابا بعدما أول الأناجيل، وبرأ اليهود من دم المصلوب.
إن الضمير الدينى عند إخواننا " أهل الكتاب " ابتلع أكبر فضيحة عالمية عندما سوغ العدوان على العرب، والتهام دورهم وأموالهم وتاريخهم، ولم ير فى ذلك شيئًا يستحق النكير..
إن الحقد التاريخى على الإسلام جعل رؤساء البيت الأبيض يشاركون فى ذبحنا بسرور ورغبة، ويساعدون الغزاة بإسراف وحماس.. أما ساسة إنجلترا وفرنسا فقد أعانوا اللص أولًا على رب البيت حتى تمكن من اقتحامه، ثم عندما شرع رب البيت فى المقاومة قالوا: يمنع السلاح عن الطرفين المتساويين (!) ويقسم البيت بينهما. [وذلك ما أقره مجلس الأمن! ورضى به المستضعفون!!]
هذا منطق الضمير الدينى عند اليهود والنصارى!! عند حملة رسالات السماء!!
إن احتقار الناس للدين والمتدينين إنما يجىء من هذه المسالك الهابطة.
وعندما يظفر " الإلحاد الأحمر " بشىء من الحفاوة والقبول فلأن مسلكه كان أقرب إلى الشرف وأدنى إلى العدالة المجردة! وصدق الله العظيم " إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ". [التوبة: ٣٤]
1 / 7
والواقع أن نجاح الشيوعية فى آسيا وأوربا يعود إلى تبلد الضمير الدينى عند اليهود والنصارى جميعًا، وقدرة هؤلاء الناس على المصالحة بين أهوائهم ومراسم العبادة التقليدية..
وقد انضم إلى الهجوم العسكرى على الإسلام هجوم ثقافى يتسلل خفية إلى السرائر والعقول مليئًا بالدس والختل، وجبهة الهجوم تشمل الآن أطراف العالم الإسلامى وصميمه، وتتذرع بكل شىء لتدمير العقائد الإسلامية وإهالة التراب على معالم الإسلام كلها..
ولما كان العرب هم دماغ الإسلام وقلبه فلا بد أن يتضخم نصيبهم من هذا الهجوم المحموم..
وهنا - فى خطة الصليبية الغربية - يجىء دور النصارى العرب الذين يجب أن يسهموا فى ضرب الإسلام وكسر شوكته ومنع دولته..!!
ترى: أيؤدون هذا الدور بدقة ويطعنوا مواطنيهم من الخلف؟
الحق أن عددًا كبيرًا منهم رفض الاستجابة لهذه الخيانة، وفى معارك فلسطين حمل السلاح جنبًا إلى جنب مع إخوانه المسلمين.
بيد أن استمرار العرض الغادر، والهزائم التى أصابت المسلمين فى ميادين شتى، والفراغ العقلى لدى خريجى التعليم المدنى، وسيل الشهوات الدافق من هنا وهناك، كل ذلك جعل الأوضاع تتغير، وأغرى بعض الرؤساء الدينيين فى الشام ومصر بفعل أمور ذات بال!!
وذلك ما دفعنى إلى تأليف هذا الكتاب..
لقد أحسست أن خطوطنا الدفاعية مهددة من خلفها، وأن المؤامرة على الإسلام وأمته الغافلة قد أخذت أبعادًا جديدة مخوفة.. وأن المصارحة هنا أجدى فى رد الخطر وقتل بوادر الشر قبل أن تستفحل!
لقد وهنت قوى الإسلام إثر الضربات المادية والأدبية التى تناولته من كل جانب.. وسمع من يقول: ما الذى جاء بالإسلام إلى مصر؟ وإلى متى يبقى؟ ولماذا لا تكون بدل مصر إسرائيل أخرى أو أسبانيا أخرى؟
1 / 8
ألا ما أشد غربة الإسلام فى بلاده..
وأمسى الإلحاد ذكاء والإيمان غباء!!
والتوحيد جمودًا والشرك تقدمًا ووعيًا!!
ومن يسمون رجال الدين الإسلامى موضع التندر والسخرية.
لا من وسائل الإعلام الرسمية وحدها، بل من مسئولين كبار " جدًا ".
أما كهان اليهودية والنصارنية فحولهم تهاويل، ولهم مكانة لا تمس!!
وشاركت مراكز القاهرة مراكز لبنان فى مهاجمة القرآن، ومخاصمة نبيه، وتزوير تاريخه.. وانسابت من جحورها أفاع ما عرفت الصفو يومًا تريد أن تنفث سمومها علنًا، وأن تخذل القضايا الإسلامية فى كل مكان..
إذا قلنا: يجب أن يعلم الدين فى جميع المراحل، وأن يختبر فيه الطلاب اختبارًا يؤثر فى مستقبلهم.. قيل: والنصارى؟
نجيب: أن نعلمهم الإسلام بداهة، ولهم أ، يتعلموا دينهم، ولا نكلف الدولة أن تختبرهم فيه.. وتوضع نسبة دقيقة تضمن لغير المسلمين أن يأخذوا طريقهم إلى درجات التعليم كلها دون حساسية..
هل من شروط الوحدة الوطنية أن يتم تجهيل المسلمين فى دينهم؟ [نحن نرفض أن تبتر أجزاء من الإسلام أو يدحرج عن مكانته الطبيعية باسم الوحدة]
إذا قلنا: يجب الحكم بما أنزل الله، سمعت صوتًا خبيثًا يقول: والنصارى؟
نجيب: تبقى لهم الأحكام المقررة فى دينهم - وهى تتصل بالأحوال الشخصية، أما بقية القوانين فلا بد أن تطبق على الكل، نعتبرها نحن دينًا، ويعتبرها غيرنا تشريعات عادية كسائر التشريعات التى تحكم إخوانهم فى سائر أقطار العالم، ماذا فى ذلك؟
هل من شروط الوحدة الوطنية أن يكفر المسلمون بشريعتهم؟!
لكن الاستعمار العالمى الذى استعان بالكنائس الغربية على إذلال الإسلام
1 / 9
واستباحة حماه، يوسع اليوم دائرته ليضمن تعاون الكنيسة الشرقية معه.
ومن ثم بدأت تصرفات مجنونة، ومطالب لا أساس لها تظهر على ألسنة بعض المسئولين وغير المسئولين.
ونحن فى هذا الكتاب نلتزم جانب الدفاع ومستعدون لوقف المعركة إذا توقف المعتدون.
إن المؤتمرات التبشيرية العالمية تجد صدى لها فى نشاط محلى ينطلق على الأرض العربية.
وقد أفلح هذا النشاط فى تنصير عدد من الطلاب لا يؤبه له، ولكن دلالته تصرخ بما فيها من التحدى والخيانة.
ولم يكن بد من أن نتحرك لنحق الحق ونبطل الباطل.
وعسى أن يرعوى المقامرون ويكفونا مزيدًا من القول..
وإن كنا يائسين من أن يوجد للغل الصليبى دواء.
أكتب هذه الصحائف وأنا فى " رباط الفتح " عاصمة المغرب الشقيق.. وأنباء القتال الدائر بين العرب واليهود تصل إلينا ساعة بعد ساعة، آذاننا صاغية إلى أجهزة " الراديو " تتنسم خبرًا يفرح..
لكن ما هذا؟ جسر جوى بين الولايات المتحدة وإسرائيل يعوضها عن كل سلاح تخسره، ويمنحها من القدرة ما تذل به رؤوسنا! ومتطوعون من شتى العواصم يقول عنهم مراسل صحيفة إنجليزية:
لقد ولوا وجوههم شطر إسرائيل بالروح التى كانت تدفع الرجال قديمًا إلى الاشتراك فى الحروب الصليبية!!
أما لهذا الغل من آخر؟!
وقال صديق مغربى خبير بعلل القوم: إنهم يقاتلون العرب لأنهم مسلمون.
1 / 10
وقلت: إن القتال الآن قومى لا دينى.. ليكن، ما دام العرب عربًا، وما دام القرآن أهم كتاب فى لسانهم، وما داموا قد انبعثوا به قديمًا فيجوز أن ينبعثوا به حديثًا، إذن لا بد من إبادتهم وإحلال جنس آخر محلهم!
هذا ما انتهى إليه الضمير الدينى صاحب شعار " الله محبة "! [سترى أن هذه اللافتة تخفى وراءها حقائق دينية لا يمكن إنكارها توصى بالجبروت مع الأعداء] .
وإلى جانب هذه المؤازرة الخسيسة كنت أسمع أن " الروس " أقاموا جسرًا مقابلًا، وأنهم سوف يضعون فى يد العرب ما يردون به العدوان ويسترجعون به الأرض ويغسلون به العار!
إننى أكره الإلحاد والملحدين، بيد أنى وجدت نفسى أمام موقف فاتن، إننى فقير إلى هذا السلاح! وعسى أن يسعفنى ويتماسك فى يدى. سآخذه مقدرًا اليد التى أسدته، سآخذه لأكسر به شوكة المعتدين الذين أفقدهم الحقد كل أثارة من عدل وعقل.
وسأدفع ثمنه ولو كان مضاعفًا، وسأذكر الجميل فأعاون الشعب الروسى على ضرب الاستعمار الغربى يوم يتحرك هذا الاستعمار بغرائزه الشرسة ويحاول الإساءة إلى الشعوب الأخرى..
على أن مشكلتى الحقيقية مع سماسرة الغزو الثقافى فى بلادنا، وضحاياه الذين نسوا الإسلام أو تناسوه.
المشكلة مع الجيل المهجن الذى ورث الإسلام أسماء وأشكالًا فارغة ورفضه:
ـ تربية معينة،..
ـ وقوانين محددة،..
ـ وقيمًا مضبوطة،..
ـ وأهدافًا ثابتة،..
هؤلاء المتعاقلون العجزة هم وراء كل المحن التى لحقتنا، ولقد امتلكوا
1 / 11
ناصية التوجيه المادى والأدبى فى سراء الأمة وضرائها، فلم تجن الأمة منهم إلا الشتات والآلام..
ماذا يريد هؤلاء؟ إنهم يعالنون بعدم العودة إلى الكتاب والسنة، ويبشرون بحكم مدنى يخسر الإسلام فيه أصوله وفروعه، وتظفر فيه نزعات الإلحاد أو الشرك بكل المغانم..
وسوف يقرأون هذا الكتاب ويتميزون غيظًا لما جاء به من حقائق كانوا يودون كتمانها، وحوار لا يحبون أن يدور..
ونريد أن نقول لهؤلاء: إنكم غرباء على أمتنا ودينها وتاريخها.. إن أمتنا يوم تملك البت فى أمورها فستختفون فورًا من جوها..
وإلى أن تملك الأمة أمرها أيسكت رجال الإسلام عن قول الحق ورفض الإفك؟؟ كلا، إن الله أخذ الميثاق على حملة الوحى أن يعالنوا به، ويكشفوا للناس حقائقه، وأكد عليهم ذلك فى قوله:
" لتبيننه للناس ولا تكتمونه " (آل عمران: ١٧٨)
فما بد من البيان وعدم الكتمان
وأعلم أن ذلك قد يعرض لمتاعب جسام، ولكنى أقول ما قاله صديقنا " عمر بهاء الدين الأميرى ":
الهول فى دربى وفى هدفى
وأظل أمضى غير مضطرب
ما كنت من نفسى على خور
أو كنت من ربى على ريب
ما فى المنايا ما أحاذره
الله ملء القصد والأرب
" ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا فى أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " [آل عمران: ١٤٧] .
" ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم " [الممتحنة: ٤، ٥] .
محمد الغزالى
1 / 12
الباب الأول/ العقل أولًا ثم ننظر فيما يقال
شعرت بحاجة إلى أن أمسح عيونى وأنظم رموشها، ثم نظرت إلى أصابعى بعد ذلك فوجدت بينها بضعة أهداب عالقة، نفختها فطارت إلى حيث لا أدرى.
وما لبثت أن تساءلت: أين وقعت؟ وكان الجواب: على الأرض حيث تفنى..
ولكن المعانى تداعت: وما يدريك أنها ستأخذ دورة أخرى فى الحياة فتكون سمادًا لحبوب متراصة فى سنبلة قمح أو كوز ذرة؟
ولم تقف عند ذلك: لعلها تعود إلى كيان آخر لإنسان مثلى!
ترى ماذا ستكون فى هذا الكيان الجديد؟!
.. رموشًا تظلل العين كما كانت عندى، أو عنصرًا آخر فى عظمة وفحمة؟
وزادت المعانى تداعيًا: من الذى يشرف عليها فى هذه الرحلة؟
إنه ليس إشراف علم ورقابة. إنه إشراف كينونة وتغيير وتنقيل من أعلى لأدنى أو من أدنى لأعلى..
وزادت المعانى تداعيًا: إن هذه الملاحقة الماسة لا تعنينى وحدى.. إننا - أبناء آدم - نبلغ قرابة أربعة آلاف مليون على ظهر هذه الكرة الطائرة، والخلاق العليم وراء كل قطرة دم تتدفق فى العروق، ومن وراء كل ثمرة تنبت فى الجلود والرءوس والجفون، من وراء كل زفير أو شهيق تعلو به الصدور وتهبط..!!
ذاك فى كياننا المادى، أما فى كياننا المعنوى فقد تصورت هذا الإشراف الأعلى على هواجس الفكر فى الأدمغة، أدمغة الخلق فى كل قارة، فى كل شبر معمور، وعلى كل تيارات الحس المختلفة من حزن وسرور، من يأس أو رجاء، من نشاط أو استرخاء..
1 / 15
عجبًا! أهو إشراف رقابة من بعيد؟ كلا، إنه إشراف ملابس متغلغل من واهب الحياة ومسير الأحياء فى البر والبحر.
وزادت المعانى تداعيًا: لكن هذه الأرض ليست حكرًا لنا وحدنا. إن أصنافًا أخرى من الخلائق تعيش فوقها زاحفة أو طائرة لها أرزاقها ومساربها، ومستقرها ومستودعها، ويقظتها ومنامها.
.. والعناية المحيطة تمد أجنحتها لتشمل ما نرى وما لا نرى من ذلك كله، ثم ما عالم الجماد فى هذه الكرة المعلقة الطائرة فى جو السماء؟
إن أغلب سطحها ماء مشحون بعوالم أخرى! ومن تحت الماء وحوله يابسة تختفى فى قشرتها معادن خسيسة وكريمة..!!
ترى بالضبط أين البترول الذى ينقبون عنه ولا يهتدون إليه؟ وأين الذهب الذى تهيج له أعصاب، وتتحلب له أفواه؟ إن الله وحده هو الذى يدرى..
وتحت القشرة الباردة وما ضمت من رطب ويابس توجد نار مستعرة، وباطن ملتهب، ما هذا كله؟
وعدت إلى نفسى وأنا فى هذه الجولة الفكرية لأتساءل: ثم ما نحن فى هذا العالم الكبير؟
وسمعت الإجابة على هذا السؤال من رائد الفضاء الأمريكى الذى يقول:
".. عندما وقع علي الاختيار لبرنامج الفضاء، كان بين أوائل الأشياء التى أعطيت لى كتيب صغير يحوى الكثير من المعلومات عن الفضاء، وكان بين محتوياته فقرتان تنطقان بضخامة الكون أثرتا في تأثيرًا بالغًا..
" ولكى ندرك هاتين الفقرتين يجب أن نعرف أولًا ما هى السنة الضوئية: إن الضوء يسير بسرعة تبلغ ٣٠٠ ألف كيلو متر فى الثانية - أى ما يعادل الدوران حول الأرض حوالى سبع مرات فى الثانية - فإذا أطلقت هذا الشعاع من الضوء وجعلته يستمر لمدة عام فإن المسافة التى يقطعها - وتبلغ حوالى ٩.٥ مليون مليون كيلو تر - هى السنة الضوئية!..
1 / 16
" وإنى أقتبس هنا ما ورد فى الكتيب عن حجم الكون الذى نعيش فيه: (عندما نذكر أن المجرة التى تضم كوكبنا يبلغ قطرها حوالى ١٠٠ ألف سنة ضوئية نشعر بدهشة، ولما كانت الشمس نجمًا لا يعتد به يقع على مسافة حوالى ٣٠ ألف سنة ضوئية من مركز المجرة، ويدور فى مدار خاص به كل ٢٠٠ مليون سنة أثناء دوران المجرة فإننا ندرك مدى صعوبة القياس الهائل للكون الواقع وراء المجموعة الشمسية، بل إن الفضاء الذى يقع بين النجوم فى مجرتنا ليس نهاية هذا الكون، فوراءه ملايين من المجرات الأخرى تندفع جميعًا فيما يبدو متباعدة عن بعضها البعض بسرعات خيالية، وتمتد حدود الكون المرئى بالمجهر مسافة ٢٠٠٠ مليون سنة ضوئية على الأقل فى كل اتجاه) ..
" إن هذا الوصف يظهر مدى ضخامة الكون الذى نعيش فيه..
" ولنعد الآن إلى ما نعرفه عن تكوين الذرة وهى أصغر جسم حتى الآن فنجد أن هناك تشابهًا كبيرًا بين الذرة ومجموعتنا الشمسية فى الكون..
" ذلك أن هذه الذرات لها الكترونات تدور حول النواة بصورة منتظمة كدوران الأسرة الشمسية حول أمها الشمس..
" والآن ماذا أريد أن أقول؟ أريد التحدث عن نظام الكون بأسره من حولنا..
" من أصغر تكوين ذرى إلى أضخم شىء يمكن تصوره.. مجرات تبعد ملايين السنين الضوئية، كلها يسير فى مدارات مرسومة محددة تضبط علاقة كل منها بالأخرى. فهل يمكن أن يكون ذلك كله قد حدث اتفاقًا؟..
" أكانت مصادفة أن حزمة من نفايات الغازات الطافية بدأت فجأة فى صنع هذه المدارات وفقًا لاتفاقها الخاص؟..
" إننى لا أستطيع تصديق ذلك.. بل إن ذلك مستحيل، والمؤكد أن ذلك تم وفق خطة مرسومة محددة.. وهذا واحد من الأشياء الكثيرة فى الفضاء التى تبين لى أن هناك إلهًا، وأن قوة ما قد وضعت كل هذه الأشياء فى مدارات وأبقتها هناك تؤدى وظيفتها العتيدة..
" ولنقارن السرعة فى مشروعنا (عطارد) مع بعض هذه الأشياء التى نتحدث عنها:..
1 / 17
" إننا نظن أحيانًا أن المشروع على ما يرام، فقد بلغنا سرعة تصل إلى حوالى ٢٩ ألف كيلو متر فى الساعة فى الدوران حول الأرض - أى حوالى ٨ كيلو مترات فى الثانية - وهى سرعة كبيرة حقًا بالنسبة لمقاييسنا الأرضية، كما أنها سرعة مرتفعة إلى حد مناسب ونحن على ارتفاع يزيد قليلًا على ١٦٠ كيلو متر..
" أما بالنسبة لما يجرى فعلًا فى الفضاء فإن مجهوداتنا هذه تعد ضئيلة جدًا " ا. هـ.
وصدق رائد الفضاء فى كلمته تلك، فإن ما يصل إليه الإنسان بجهده وفكره شىء محدود القيمة بالنسبة إلى ما يقع فى العالم حوله، وأذكر أننى تجولت فى مصانع السكر، ورأيت الأنابيب الطافحة بالعصير، والأفران المليئة بالوقود، والآلات التى تغطى مساحة شاسعة من الأرض، لقد قلبت البصر هنا وهنالك ثم قلت: سبحان الله! إن بطن نحلة صغيرة يؤدى هذه الوظيفة.. وظيفة صنع السكر دون كل تلك الأجهزة الدوارة والضجيج العالى!
وخيل إليّ أن المخترعات البشرية لا تعدو أن تكون إشارة ذكية إلى ما يتم فى الكون بالفعل من عجائب دون وسائط معقدة وأدوات كثيرة.
ولو أن البشر أرادوا بناء مصنع للف الحبات النضيدة فى سنبلة قمح بالقشرة التى تحفظ لبابها لاحتاج الأمر إلى حجرة كبيرة تحت كل عود!
لكن ذلك يحدث فى الطبيعة فى صمت وتواضع!
والمقارنة التى عقدناها هنا تجاوزنا فيها كثيرًا، فإن الإنسان المخترع هو بعض ما صنع الخلاق، والمواهب الخصبة فيه بعض ما أفاء الله عليه..
وكأنما أراد الله الجليل أن يعرف ذاته وعظمته للإنسان الذى أنشأه، فهداه إلى بعض المخترعات؛ ليدرك مما بذل فيها كيف أن الكون مشحون بما يشهد للخالق بالاقتدار والمجد.
.. إن ميلاد برتقالة على شجرة أروع من ميلاد " سيارة " من مصنع سيارات يحتل ميلًا مربعًا من سطح الأرض. ولكن الناس ألفوا أن ينظروا ببرود أو غباء إلى البدائع لأنها
1 / 18
من صنع الله، ولو باشروا هم أنفسهم ذرة من ذلك ما انقطع لهم ادعاء ولا ضجيج..
إننى عرفت الله بالنظر الواعى إلى نفسى وإلى ما يحيط بى، وخامرنى شعور بجلاله وعلوه وأنا أتابع سننه فى الحياة والأحياء.
وبدا لى أن أستمع إلى ربى فى الوحى الذى أنزله.. إذ لا بد أن يكون هذا الوحى حديثًا ناضجًا بما ينبغى له من إعزاز وحمد!
كان أقرب وحى إلى هو القرآن الكريم لأننى مسلم، فلما تلوته وجدت التطابق مبينًا بين عظمة الله فى قوله، وعظمته فى عمله.
سمعته يقول:
" الله خالق كل شىء، وهو على كل شىء وكيل، له مقاليد السموات والأرض.. " [الزمر: ٦٢، ٦٣]
" الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض الأرحام وما تزداد، وكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال.. " [الرعد: ٨، ٩]
" الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا " [غافر: ٦١]
" الله الذى جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم " [غافر: ٦٤]
" بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم، ذلك الله ربكم، لا إله إلا هو خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير " [الأنعام: ١٠١، ١٠٢]
وآيات أخرى كثيرة كثيرة، كلها شواهد على أن ما وقر فى نفسى عن الله بطريق العقل قد أيده النقل تأييدًا مطلقًا، وجعلنى أستريح إلى الإسلام فكرًا وضميرًا.
1 / 19
ومع ذلك فإن حب الاستطلاع دفعنى إلى أن أطالع ما بأيدى الآخرين من كتب منسوبة إلى السماء، وقلت: ربما أضافت جديدًا إلى ما عندى.
.. ومددت يدى إلى " الكتاب المقدس " وشرعت أقرأ بدء الخلق، وقصة الحياة كما رواها العهد القديم.
ولست أحب التجنى والإثارة، إننى سوف أذكر ما لدى من مقررات عقلية أيدتها النقول الإسلامية، ثم أضع بين يدى الناس وجهة نظر " العهد القديم " فى هذه القضايا، مكتفيًا بنقل نصوص معروفة لدى أصحابها، ويستطيع كل امرىء أن يقرأها فى مظانها.
الله يتعب ويجهل ويندم ويأكل ويصارع!!
هل يمكن أن يتعب الله، وأن يأخذه الإعياء بعد عمل ما؟
القرآن الكريم يجب على هذا السؤال: " أو لم يروا أن الله الذى خلق السموات والأرض ولم يعى بخلقهن بقادر على أن يحيى الموتى؟ بلى إنه على كل شىء قدير " (الأحقاف: ٣٣)
ومن البدائه أن يكون الخلاق الكبير فوق الإجهاد، وذهاب القوة: " وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلى العظيم " (البقرة: ٢٥٥) .
ولذلك يقول مثبتًا هذه الحقيقة: " ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام وما مسنا من لغوب" (ق: ٣٨)
لكن العهد القديم يذهب غير المذهب، ويصف الله فيقول:
" وفرغ الله فى اليوم السادس من عمله فاستراح فى اليوم السابع من جميع عمله الذى عمل، وبارك الله السابع وقدسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذى عمل الله خالقًا " (سفر التكوين: الاصحاح الثانى)
1 / 20
ودعك من الركاكة التى صيغت بها هذه العبارات، فقد يكون المترجم هابط الأسلوب فى التعبير عن معنى ما، لكنك لا تستطيع أن تفهم معنى آخر من هذا الكلام، إلا أن الله " استراح " من جميع أعماله فى اليوم السابع، هذه الأعمال التى أداها بوصفه خالقًا.
واليهود يحرمون العمل يوم السبت، ويقدسونه، وجاء فى التوراة أن موسى أمر بأن يقتل رجمًا أحد الحطابين الذين أبوا إلا الكدح فى هذا اليوم!
كيف جرى الحديث عن الله بهذه الكلمات؟ لعلها غلطة ناقل، لكن الحديث عن عجز الله تبعه حديث آخر عن جهله!!
واسمع إلى وصف العهد القديم لآدم وزوجه بعدما أكلا من الشجرة:
" وسمعا صوت الرب الإله ماشيًا فى الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله فى وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين أنت؟ فقال: سمعت صوتك فى الجنة فخشيت لأنى عريان فاختبأت. فقال: من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التى أوصيتك أن لا تأكل منها؟.. " (سفر التكوين: الاصحاح الثالث)
ما هذا؟ كان الإله يتمشى فى الجنة خالى البال مما حدث، ثم تكشفت له الأمور شيئًا فشيئًا، فعرف أن آدم خالف عهده، وأكل من الشجرة المحرمة!
تصوير ساذج يبدو فيه رب العالمين وكأنه فلاح وقع فى حقله ما لم ينتظر!
ما أبعد الشقة بين هذا التصوير وبين وصف الله لنفسه فى القرآن العظيم: " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه، ونحن أقرب إليه من حبل الوريد " (ق: ١٦) " وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودًا إذ تفيضون فيه " (يونس: ٦١)
1 / 21
وقد أعقب هذا " الجهل الإلهى " قلق غريب، فإن الله يبدو وكأن ملكه مهدد بهذا التمرد الآدمى.
لقد أكل آدم من الشجرة - شجرة المعرفة - وارتفع بهذا العصيان إلى مصاف الآلهة فقد أدرك الخير والشر، وكان الرب عندما خلقه حريصًا على بقائه جاهلًا بهما.
ومن يدرى ربما ازداد تمرده وأكل من شجرة الخلد وظفر بالخلود، إنه عندئذ سوف ينازع الله حقه، إذن فليطرد قبل استفحال أمره.
جاء فى العهد القديم:
" وقال الرب الإله: هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفًا الخير والشر، والآن لعله يمد يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضًا، ويأكل ويحيا إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التى أخذ منها، وطرد الإنسان وأقام شرقى جنة عدن الكروييم ولهيب سيف متقلب لحراسة طريق شجرة الحياة " (التكوين: الاصحاح الثالث)
لكن سيرة آدم وأبنائه على ظهر الأرض لم تكن مرضية لله. إن منهجه فى الحياة ضل بالآثام والمتاعب، ولم يكن الله حين خلقه يعرف أنه سيكون شريرًا إلى هذا الحد، لقد فوجئ بما وقع، ومن أجل ذلك حزن الرب وتأسف فى قلبه أن خلق آدم وأبناء آدم.. قال العهد القديم:
" فحزن الرب أنه عمل الإنسان، وأن كل تصور أفكار قلبه إنما هو شرير كل يوم، فحزن الرب أنه عمل الإنسان الذى خلقته،.. الإنسان مع بهائم ودبابات وطيور السماء، لأنى حزنت أنى عملتهم.." (التكوين: الاصحاح السادس)
الحق أننى أدهش كل الدهشة للطفولة الغريرة التى تضح من هذا الحديث الخرافى عن الله ﷻ.
إن الإله فى هذه السياقات الصبيانية كائن قاصر.. متقلب.. ضعيف.
1 / 22
وما أشك فى أن مؤلف هذه السطور كان سجين تصورات وثنية عن حقيقة الألوهية وما ينبغى لها..
وأول ما نستبعده حين نقرأ هذه العبارات أن تكون وحيًا، أو شبه وحى..
ومع ذلك فإن اليهود والنصارى يقدسون ذلك الكلام، ويقول أحد القساوسة: " الكتاب المقدس - يعنى العهدين معًا - هو صوت الجالس على العرش، كل سفر من أسفاره أو اصحاح من اصحاحاته أو آية من آياته هو حديث نطق به الكائن الأعلى! ".
والمرء لا يسعه إلا أن يستغرق فى الضحك وهو يسمع هذا الكلام! إنه إله أبله هذا الذى ينزل وحيًا يصف فيه نفسه بالجهل والضعف والطيش والندم.
ونحن المسلمون نعتقد أن الكتاب النازل على موسى برىء من هذا اللغو، أما التوراة الحالية فهى تأليف بشرى سيطرت عليه أمور ثلاثة:
الأول: وصف الله بما لا ينبغى أن يوصف به، وإسقاط صورة ذهنية معتلة على ذاته " سبحانه وتعالى عما يقولون علوًا كبيرًا ".
الثانى: إبراز بنى إسرائيل وكأنهم محور العالم، وأكسير الحياة، وغاية الوجود.. فهم الشعب المختار للسيادة والقيادة لا يجوز أن ينازعوا فى ذلك.
الثالث: تحقير الأمم الأخرى، وإرخاص حقوقها، وإلحاق أشنع الأوصاف بها وبأنبيائها وقادتها.
وقد تتخلل هذه الأمور بقايا من الوحى الصادق، والتوجيهات المبرأة، بيد أن الأسفار الشائعة الآن تغلب عليها الصبغة التى لاحظناها.
وها نحن أولاء نسوق الأدلة على ما قلنا مكتفين بالشواهد من سفر التكوين وحده، لأن الانتقال إلى غيره يطيل حبل الحديث.
فى هذا السفر أعلن الله ندمه على إغراق الأرض بالطوفان.
وقال لنوح: لن أرتكب هذه الفعلة مرة أخرى! وسأضع علامة تذكرنى بذلك حتى لا أعاود إهلاك الحياة والأحياء، وهاك النص:
1 / 23
" وكلم الله نوحًا وبينه معه قائلًا:.. أقيم ميثاقى معكم فلا ينقرض كل ذى جسد أيضًا بمياه الطوفان، ولا يكون أيضًا طوفان ليخرب الأرض، وقال الله: هذه علامة الميثاق الذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كل ذوات الأنفس الحية التى معكم إلى أجيال الدهر، وضعت قوسى فى السحاب فتتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض، فيكون متى أنشر سحابًا على الأرض وتظهر القوس فى السحاب.. فمتى كان القوس فى السحاب أبصرها لأذكر ميثاقًا أبديًا بين الله وبين كل نفس حية فى كل جسد على الأرض.. " (الاصحاح التاسع من سفر التكوين)
هذا هو التفسير لقوس قزح، وتحلل اللون الأبيض إلى عناصره المعروفة بألوان الطيف، كما شرح ذلك علماء الطبيعة.. قوس قزح هى قوس الله يبرزها فى الأفق إشارة إلى العهد الذى أخذه على نفسه كى لا يغرق الأرض مرة أخرى، إنه يرى هذه القوس فيتذكر، حتى لا يتورط فى طوفان آخر!!
ورأيى أن الطوفان القديم كان عقوبة لقوم نوح وحدهم، وأنه ليس غرقًا استوعب سكان القارات الخمس. فما ذنب هؤلاء المساكين ونوح رسالته محلية لا عالمية، اللهم إلا إذا كان المعمور يومئذ من هذا الكوكب ديار نوح وحسب.
وأيًا ما كان الأمر، فإن وصف الله بالضيق لما ارتكب من إغراق الأرض، وتعهده ألا يفعل ذلك، أمر يليق بالخلق لا بالخالق.. بالناس لا برب الناس.
على أن هذه القصة أيسر من دعوة الله إلى ضيافة نبيه إبراهيم، لقد قدم الله فى شكل رجل مع اثنين من ملائكته، وأقام لهم إبراهيم وليمة دسمة، فأكلوا منها جميعًا!!
وكان إبراهيم حريصًا على إحراز هذا الشرف، شرف أن يأكل الله فى بيته، فلما لبى الله الدعوة أسرع الرجل الكريم فى إعداد مائدة مناسبة! وهاك القصة كما رواها سفر التكوين:
" وظهر له الرب.. ونظر وإذا ثلاثة رجال.. وقال: يا سيد (يقصد الله) إن كنت
1 / 24
قد وجدت نعمة فى عينيك فلا تتجاوز عبدك.. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: اعجنى واصنعى خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رخصًا وحيدًا وأعطاه للغلام فأسرع ليعمله ثم أخذ زبدًا ولبنًا والعجل الذى عمله ووضعها قدامهم وإذا كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا، وقالوا له:.. ويكون لسارة امرأتك ابن.. فضحكت سارة فى باطنها قائلة: بعد فنائى يكون لى تنعم وسيدى قد شاخ! فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة..؟ هل يستحيل على الرب شىء؟ " (الاصحاح الثامن عشر من سفر التكوين)
ونتجاوز هذه المائدة الدسمة التى أكل منها الرب وملائكته، لنقف بإزاء قصة أخرى من أغرب وأفجر ما اختلق الروائيون!!
القصة الجديدة تحكى مصارعة بين " الله " وعبده " يعقوب "!
.. وهذه المصارعة دامت ليلًا طويلًا، وكاد يعقوب يفوز فيها لولا أن الطرف الآخر فى
المصارعة - وهو الله!! - لجأ إلى حيلة غير رياضية هزم بعدها يعقوب!
ومع ذلك فإن يعقوب تشبث بالله وأبى أن يطلقه حتى نال منه لقب " إسرائيل "!!
ومنحه الله هذا " اللقب الفخرى " ثم تركه ليصعد إلى العرش ويدير أمر السماء والأرض، بعد تلك المصارعة الرهيبة!!
أى سخف هذا، وأى هزل؟؟
أى عقل مريض أوحى بهذا القصص السفيه؟؟
ولكن اليهود يريدون أن يرفعوا مكانة جدهم الأعلى، ولا عليهم أن يختلقوا ما يستغربه الخيال، وهاك القصة بأحرفها من سفر التكوين:
" فبقى يعقوب وحده وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب فى مصارعته معه، وقال: أطلقنى!.. فقال: لا أطلقك إن لم تباركنى! فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فى ما بعد يعقوب بل إسرائيل.. وسأل يعقوب وقال: أخبرنى باسمك
1 / 25