Benjamin Franklin
بنجامين فرنكلين
Genre-genre
1
وهو قول صحيح من وجوه كثيرة. ولكننا لا نعني هذه الشهرة التي استفادها من بحوثه العلمية حين نقول: إن صفة العالم تغني عن صفاته الأخرى إذا وجب أن نكتفي منها بصفة واحدة، وإنما نعني أن ملكته العلمية كانت ملحوظة في جميع أعماله على اختلافها، فكان عالما في سياسته، وكان عالما في صناعاته اليدوية والفكرية، وكان عالما في وظائفه الإدارية، وكان عالما في معيشته اليومية، وربما استطاع في أطوار كثيرة من حياته أن ينسى أنه سياسي، أو ينسى أنه موظف، أو ينسى أنه كاتب، أو ينسى غير ذلك من تكاليفه، وجهوده، إلا صفته العلمية فإنها لم تفارقه قط في مهمة من المهام الكبرى أو الصغرى التي تصدى لها طول حياته، ولم يكن يشرع في مهمة منها إلا كانت ملكته العلمية أسرع ملكاته إلى الظهور فيها والاقتران بها إلى أن يفرغ منها.
والملكات العلمية كثيرة حين ننظر إليها متفرقة في العلماء المنقطعين لدراسات العلم وتجاربه، وإذا قلنا عنها: إنها «ملكة علمية» بصيغة المفرد، فهي في هذه الحالة عنوان لصفات كثيرة قد تجتمع للعالم الواحد، وقد تتفرق بين كثير من العلماء، ولكنها في جملتها لم تتوافر للكثيرين كما توافرت لفرنكلين من بواكير صباه إلى ختام حياته.
فمن الملكات العلمية جمع الحوادث المتفرقة المتشابهة في ظاهرة واحدة. وقد كان فرنكلين عالما في طفولته حين رأى أباه يصلي صلاة البركة على طعام كل وجبة فسأله: لماذا لا تصلي يا أبي على الذبيحة مرة واحدة تغنيك عن تكرار الصلاة قبل كل وجبة؟
ومن الملكات العلمية ملاحظة الأحوال الطبيعية التي تعرض لنا مصادفة، ثم تكرار التجربة عليها للتثبت من حصولها بالاتفاق أو على التواتر والاطراد. وقد كان فرنكلين عالما في صباه حين راقب نفسه وهو يسبح في الماء وفي يده طيارة الورق، فرأى أن العوم أيسر له وأسر له في هذه الحالة من العوم بغير طيارة، وعاود التجربة على أوضاع مختلفة حتى تثبت من تيسير الطيارة لجهود السابح في الماء على أوضاع متعددة.
وقد كان فرنكلين عالما في اختيار الخطة التي تيسر له إتقان الكتابة، وكان عالما كذلك في اختيار الخطة التي يتوخاها لمراقبة أخلاقه وتهذيب نفسه، والعلم بنصيبه من كل خلق من هذه الأخلاق ومقدار حاجته إلى المرانة عليه في معيشته اليومية، فقد كانت التجربة والملاحظة والإحاطة بالعوامل المختلفة والبحث في جملة الفروض الممكنة بعض وسائله في هذه المحاولات وما جرى مجراها، وكان قياسه للنجاح الفكري والنجاح النفساني مرصودا عنده على الورق يقرره ويستدل منه على مبلغه من التقدم فيه ومبلغ الصعوبة أو السهولة في هذا التقدم على توالي الأيام.
أعجبه أسلوب الكاتب الإنجليزي «أديسون» في مجلة السبكتاتور فأراد أن يمتحن نفسه في القدرة على محاكاته، وأن يدرب قلمه على الكتابة بهذا الأسلوب وهو في أوائل عهده بالكتابة، فاختار مقالة من مقالات الكتاب ودون معانيها وأغراضها العامة على ورقة، ثم ترك القراءة في الكتاب لينسى عباراته وألفاظه. وعاد إلى الورقة بعد أيام فأعاد كتابة المعاني التي دونها فيها معنى بعد معنى بعبارات من عنده لا يذكر ما يقابلها من عبارات الكتاب، ورجع إلى الكتاب بعد ذلك ليقابل بين الأسلوبين في التعبير عن المعنى الواحد، فوضح له الفرق بينهما ووقف على الأخطاء التي تحتاج إلى العناية بإصلاحها واجتنابها، وعرف من عيوبه أنه قليل المحصول من مفردات اللغة، وأنه يبحث عن الكلمة التي يؤدي بها المعنى فلا يجدها حاضرة في ذهنه. فعمد إلى المقالات ينظمها شعرا؛ لأنه يعلم أن الشعر يحتاج إلى المترادفات من الكلمات التي تتفق في معناها وتختلف في أوزانها وعدد حروفها ومقاطعها، وأنه يحتاج إلى القوافي والفواصل في سطوره المتوالية، وأنه على ذلك سهل الحفظ والإعادة؛ لأن الكلمة التي نبحث عنها مع العلم بوزنها وقافيتها لا تتعبنا في البحث كما تتعبنا الكلمة المرسلة بغير وزن ولا قافية. وكان يجرب مع هذه الطريقة طريقة أخرى في امتحان القدرة على الترتيب والتعبير، فكان يدون المعاني مختلطة مبعثرة، ثم يعود إليها بعد أيام ينسى فيها ألفاظها وعباراتها، فيبدأ بجمعها وترتيبها ثم يعاود كتابتها بألفاظ وعبارات من عنده، ويسجل الفروق بين أسلوبه وأسلوب أديسون، كما يسجل درجات التقدم في تجربة بعد تجربة، فلا يترك هذا التسجيل للظن والتخمين، بل يراه أمامه محصورا بالأمثلة والشواهد والأرقام، ولا يبالغ في الثقة بنفسه، ولا في قلة الثقة بها على الحالين، بل يعرف عيوبه وحسناته ويقول لنا في ترجمته لنفسه أنه كان يغتبط أحيانا كلما رأى له عبارة تفوق عبارة الكاتب في جمالها ودقتها.
وأراد في سن الرجولة أن يروض نفسه على محاسن الأخلاق، وأن يهتدي إلى حظه منها ومبلغ افتقاره إلى زيادتها أو تمكينها أو تهذيبها، فأحصى الأخلاق المثلى، وعرفها على النحو الآتي: (1)
الاعتدال:
لا تأكل حتى الشبع، ولا تشرب حتى النشوة. (2)
Halaman tidak diketahui