Benjamin Franklin
بنجامين فرنكلين
Genre-genre
ويستخلص القارئ من الترجمة صفة أخرى كان لها ولا ريب أثرها العظيم في ألفة فرنكلين للناس، وألفة الناس إياه، فإن القارئ ليفهم من الصفحات الأولى أنه يعيش مع «مخلوق اجتماعي» من فرعه إلى أصبع قدمه، وقد قيل قديما وحديثا: إن الحاسة العائلية أساس الحاسة الاجتماعية وقرارها الذي ترجع إليه في الأعماق، وهذه الحاسة العائلية أو هذه الحاسة الاجتماعية هي التي تنضح بها كل صفحة من صفحات الترجمة من بدايتها إلى نهايتها، فإنه على علمه بفقر آبائه وأجداده، وعلى عزيمة الهجرة الأبدية التي اعتزمها مؤثرا دار الهجرة على مواطن الآباء والأجداد، وعلى كثرة الشواغل التي تشغل السفير الأمريكي عند حكومة الدولة البريطانية في إبان الخلاف والشقاق، لم يمنعه هذا كله أن يبحث عن تواريخ أسلافه البسطاء، وأن يتحرى منها كل ما أمكنه العثور عليه، وأن يثبته كما انتهى إليه بغير صقل ولا تزويق وبغير حشو ولا ادعاء.
ويستطيع القارئ من قراءة السطور وما بينها أن يفهم أن «بنيامين» قد ورث من كل سلف مذكور حمل اسم فرنكلين بنية قوية ومزاجا كأقرب ما يكون المزاج الإنساني إلى الاعتدال، فسلك سبيله بين الناس بغير عقدة خفية، وبغير خبيئة مطوية، واستعان بتلك البنية على احتمال ما يعيا به الكثيرون من خلائق الناس التي تطاق أو لا تطاق، ولا وجه لاستغراب النجاح من رجل عليم بالضعف الإنساني مقتدر على المعذرة مطبوع على الحاسة الاجتماعية، سليم الأعصاب، غير مضطرب المزاج.
ونحن لا نريد في هذا الفصل - بداهة - أن ننقل الترجمة كلها، أو نلخصها، ولا نريد كما ذكرنا في التمهيد أن نستقصي هذه الترجمة في سائر فصول الكتاب؛ لأننا آثرنا أن نتكلم على جوانب الصورة التي ترسم لنا ملامح فرنكلين، وندع الكلام عن وقائع الحوادث وأرقام السنين، فيعنينا فرنكلين العالم كيف كان عالما، وفرنكلين الكاتب كيف كان كاتبا، وفرنكلين السياسي، وفرنكلين الفيلسوف كيف كان في مناهجه السياسية وفي آرائه الفلسفية، وكيف كان فرنكلين الإنسان بعد ذلك إنسانا حقا في جميع تلك الجوانب، أو جميع تلك الملامح من الصورة الشاملة، ولا يعنينا ما عدا ذلك من التاريخيات التي لا تصحبها «نفسية» من هذه النفسيات.
نحن لا نريد أن ننقل الترجمة أو نلخصها، ولكننا لا نستطيع مع هذا أن نغفلها وندع النقل منها في كتاب عن «شخصية» الكاتب الذي ألفها، فما ننقله هنا من الترجمة فإنما هو الجزء الذي يكفي للإبانة عن أسلوبه والجزء الذي تنفرد الترجمة به، فلا يشاركها فيه مصدر آخر من مصادر السيرة التاريخية، وذلك هو الجزء الذي يتكلم فيه فرنكلين عن سلفه إلى مولده وطفولته واختياره لصناعته على آسال من سوابق أولئك الأسلاف، ثم نتبع هذا الجزء بالإشارة إلى خطوات هذه الحياة الحافلة بين أرقام السنين؛ لأنها سجل يراجع عند الضرورة كلما دعت الحاجة إليه في متابعة فصول الكتاب، ولا يفوتنا أن نعد من أسباب هذا الاكتفاء أن مفكرات فرنكلين ليست من قبيل التراجم التي تختصر وتلخص فيغني عنها الاختصار والتلخيص؛ لأنها بنية حية، وليست أشتاتا من الحوادث يمسكها السمط، ويأتي من يشاء فيقطع السمط حيث يشاء، ولكنها تؤخذ جانبا جانبا كما تؤخذ الصور من جوانبها المتعددة، وهذا هو جانبها الذي اخترناه لنقله بغير تصرف فيه، للسبب الذي قدمناه.
قال فرنكلين في النسخة الأولى من مفكراته:
هنا سأرضي تلك النزعة المألوفة في الشيوخ: نزعة التحدث عن أنفسهم وأعمالهم الماضية، دون أن أزعج بها غيري ممن يحسبون - رعاية للسن - أنهم مطالبون بالإصغاء إلي، إذ كان في وسعهم أن يقرءوا أو يدعوا القراءة متى شاءوا، وسأعترف أخيرا بأنني سأرضي غروري لأنني إن أنكرته لم يصدقني أحد، والحق أنني ما سمعت ولا قرأت قولة لقائل في التمهيد لكلامه: أنه لا يريد أن يدعي أو يغتر، إلا رأيت بعد ذلك ضربا من الادعاء أو الغرور يأتي على الأثر، وإن كثيرا من الناس ليبغضون الغرور في الآخرين مهما يكن من وفرة نصيبهم منه، ولكنني تعودت أن أفسح له مكانا كلما التقيت به، لعلمي أنه يفيد أحيانا من يغترون ومن يتصلون بهم في جوارهم، وليس من العبث إذن أن يشكر الإنسان ربه على ما يسديه إليه من الغرور بين سائر النعم التي يستمتع بها في حياته.
والآن أقول بعد حمد الله متطامنا بين يديه أنني مدين بما نعمت به من السعادة لحكمته الرحيمة التي هدتني إلى الوسائل التي توسلت بها وبلغت ما بلغت من النجاح بفضلها، وأن يقيني بهذا يدعوني إلى الأمل، وإن كنت لا أعلم الغيب، أن تلك الحكمة الرحيمة سوف تتولاني لاستبقاء تلك السعادة أو للصبر على ما يصيبني من خيبة الرجاء كما يصيب الآخرين؛ إذ لا يعلم مصيري غير الله القدير على أن يجعل في كل شيء بركة حتى العذاب.
إن المذكرات التي أسلمها إلى أحد أعمامي المعنيين مثلي باستطلاع الأخبار والنوادر عن أسلافي قد زودتني ببعض المعلومات الخاصة عن أولئك الأسلاف، وقد علمت من هذه المذكرات أن العائلة سكنت القرية بعينها - قرية أكتون في نورثامبتون شاير - ثلثمائة سنة، ولا يعلم كم من السنين أقامت فيها قبل ذلك، ولعلها بدأت منذ اتخذت اسم فرنكلين، الذي كان علما على طائفة من الناس، لقبا لها يوم ذهب الناس جميعا يقرنون أسماءهم بالألقاب في سائر أنحاء المملكة.
وكانوا يعيشون على نحو ثلاثين فدانا مستعينين مع غلتها بصناعة الحدادة التي احترفتها الأسرة إلى أيامه، وكان أكبر الأبناء يتدرب من نشأته على هذه الصناعة، عادة جرى عليها الآباء من القدم، ونهج هو، وأبي على مثالهم فيها.
ولما ذهبت لمراجعة السجلات المحفوظة في قرية أكتون وجدت فيها تسجيلات لمولدهم وزواجهم ووفاتهم منذ سنة 1555، ولم أجد لهم تسجيلات محفوظة قبل تلك السنة، وعلمت من تلك التسجيلات أنني كنت أصغر الأبناء لأصغر الأبناء خمسة أجيال متعاقبة، وكان جدي توماس الذي ولد سنة 1598 معمرا عاش في أكتون حتى أقعدته السن عن مباشرة الصناعة، فذهب إلى بانبري من إقليم «أكسفورد شاير» ليعيش مع ابنه جون الذي كان يحترف الصباغة وعلى يديه تعلم أبي هذه الصناعة، وقد توفي جدي ودفن بها ورأينا شاهد قبره سنة 1758.
Halaman tidak diketahui