Bina Umma Carabiyya
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Genre-genre
ولا يهمنا الآن من أمر معاهدة برلين ما أدخلته من تعديل على الموقف في شبه جزيرة البلقان، فقد مدت في عمر الحكم العثماني هناك.
وزادت بهذا في نفس الوقت مشكلات الدولة تعقيدا، واستمرت أمور البلقان مصدر نحس لأهليه وللدولة العثمانية وللدول الأوروبية إلى أن أدت إلى نشوب الحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وهاتان الحربان وإن لم تتركا للسلطنة العثمانية إلا القليل من ملكها القديم في البلقان إلا أنهما لم يحلا ما بين البلقانيين أنفسهم من خلاف، بل سارت المسائل من سيئ إلى أسوأ إلى أن كانت الشئون البلقانية السبب المباشر في نشوب الحرب العالمية الأولى. سنترك هذه الشئون جانبا في استعراضنا هذا السريع، ولكننا نرجو ألا يظن ظان أن عدم ذكرها يرجع إلى أن البلقان كان ينعم بالهدوء. ويبرر خطتنا هذه أن الأهمية الحقيقية منذ مؤتمر برلين كانت للولايات الآسيوية؛ أي للترك والعرب. ثم منذ مؤتمر برلين بدأت في الحقيقة التصفية التدريجية للدولة يشارك فيها الجميع على شكل «عمليات صغرى» أو عمليات محلية (وقد سبق أن شرحنا معنى هذا).
ويصح أن تخرج من هذا الوصف سياسة ألمانيا إزاء الدولة العثمانية على أيام القيصر ولهلم؛ وكانت سياسته ترمي إلى إنهاض الدولة العثمانية واتخاذ حليف قوي منها على أساس اتفاق المصالح.
ويوضح ما ذهبنا إليه ما حدث أثناء المؤتمر من موافقة الدولة العثمانية على تسليم جزيرة قبرص للحكومة البريطانية لإدارتها ولتتخذ منها قاعدة للدفاع عن الولايات الآسيوية، ويوضحه أيضا ما حدث أثناء المؤتمر من إطلاق يد فرنسا في تونس. لم ير بسمارك إذ ذاك بأسا من أن يشجع فرنسا على المضي في التوسع الاستعماري فلا يتيسر لها عندئذ أن تركز قواتها الحسية والمعنوية لتزيل عار الهزيمة في 1870 ولتسترد الإلزاس واللورين.
ولم تر الحكومة البريطانية مناصا من أن تسلم لفرنسا بشيء نظير حصولها هي على قبرص. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحكومة البريطانية أخذت إذ ذاك تهتم عمليا باكتساب مركز خاص في مصر وتأمين هذا المركز، وكانت تعلم أن فرنسا لن تسلم بذلك بسهولة، فكان مما ينفع أن تتساهل هي مقدما في شأن تونس. والذين أغضبهم حقا ما حدث كانوا الإيطاليين؛ لاعتبارات الهجرة والاستثمار والقوة البحرية والأحلام التاريخية. ولكن الإيطاليين لم يملكوا النفوذ الكافي لمنع فرنسا من بسط حمايتها على تونس في 1881.
وأثناء ذلك كانت أزمة الحركة الوطنية المصرية، ونعرف ما كان من انفراد الحكومة البريطانية بالتدخل المسلح لقمعها في سنة 1882، وحصولها على المركز الممتاز في وادي النيل، ونجاحها في إحباط جميع ما بذل من محاولات لإرغامها على تحديد تاريخ للانسحاب من مصر. وزاده اطمئنانا وضع يدها على الأقاليم الجنوبية من وادي النيل وإن سلمت بحق مصر شريكة لها في تلك الأقاليم، ثم زاد اطمئنانها في سنة 1904 عندما عقدت مع فرنسا الاتفاق الودي المشهور.
وهذا الاتفاق يطلق يد فرنسا في المغرب (مراكش) كما يطلق يد بريطانيا بمصر، ومعنى إطلاق اليد هو أن تتجنب فرنسا من ناحيتها أو بريطانيا من ناحيتها إثارة ما يحرج الدول الأخرى، وأن تلتزم عموما موقفا وديا من مشروعات الدولة الأخرى. وتوجت بريطانيا مساعيها السياسية باتفاق ودي آخر مع الروسيا تاريخه سنة 1907. وقد سوى هذا الاتفاق شئونا مختلفة، كان من أهمها بالنسبة لنا تفاهم الدولتين على تقسيم فارس إلى منطقتي نفوذ: شمالية للروسيا وجنوبية لبريطانيا.
وهكذا تتوالى «عمليات» تصفية أمر الولايات الآسيوية الأفريقية وأمر فارس، ويكملها - فيما بين زوال حكم السلطان عبد الحميد وإعلان الحرب العالمية الأولى - تصفية أمر المغرب بوضعه تحت الحماية الفرنسية، وتصفية أمر طرابلس الغرب باستيلاء إيطاليا عليها، وكذلك أكثر ما كان للدولة في البلقان؛ نتيجة للحربين البلقانيتين الأولى والثانية، وضم الإمبراطورية النمسوية للبوسنة والهرسك.
بقيت للدولة ولاية بغداد، وبقيت لها ولاياتها السورية، يتغلغل فيها جميعا نفوذ الدول الأجنبية ومصالحها، وتتوزع نفوس أهليها مختلف العواطف ومتضارب الأهواء.
وهكذا أخذت تتلاشى كلما تقدم الزمن بعبد الحميد النظرة إلى الدولة العثمانية وحدة أو كلا، اللهم إلا نظرة القيصر ولهلم إليها، وهذا ما أنتقل إلى التحدث عنه.
Halaman tidak diketahui