Bina Umma Carabiyya
منهاج مفصل لدروس في العوامل التاريخية في بناء الأمة العربية على ما هي عليه اليوم
Genre-genre
وكان لهذا التجديد آثاره الحسنة وآثاره السيئة. وأضعف ما فيه أنه لم يقو على بناء دولة تستطيع حقا أن تحافظ على استقلالها، دولة تستطيع أن تختار من نتائج مخالطة الأوروبيين ما ينفعها وتنبذ ما لا ينفعها، وأظهر آثار تلك الحقبة الارتباك المالي، وانهيار الحكومة الوطنية بإزاء التدخل الأوروبي، وعجزها عن التحول إلى حكم ديموقراطي صحيح؛ مما جعلها لا تكره - على الأقل - أن تحتمي بالنفوذ الأجنبي.
فارتبكت الأمور في تونس، وفي مؤتمر برلين جرى كلام يرمي إلى تشجيع فرنسا على وضع يدها على تونس. وقد كان الوقت وقت تسابق لبسط النفوذ على الولايات العربية العثمانية أو الآسيوية الأفريقية، وكان فتح قناة السويس للملاحة الحافز الأكبر للدول البحرية، فها هي ذي الحكومة البريطانية تستحوذ على جزيرة قبرص باتفاق سري مع الحكومة العثمانية صاحبة الجزيرة، وهذا لتتخذ منها قاعدة لحماية «تركيا الآسيوية». وأطلق بسمارك يد فرنسا في تونس تشجيعا لها على المضي في الاستعمار، علها تجد في هذا ما ينسيها بعض الشيء الإلزاس باللورين، ولم تجد بريطانيا بدا من أن تطلق هي الأخرى يد فرنسا في تونس، وإيطاليا إذ ذاك لم يعمل لها حساب.
فزاد التدخل الفرنسي، وانتهى الأمر بإرسال القوات العسكرية وفرض معاهدة الحماية على الباي في سنة 1881 - ولنتذكر أن احتلال بريطانيا لمصر كان في سنة 1882 - واحتفظت فرنسا بحكومة الباي وإن كانت قد قطعت ما بين تلك الحكومة وحكومة الدولة العثمانية، وكذلك ألغت فرنسا ما كان للرعايا الأوروبيين من «امتيازات»، وسيرد في الفصول التالية شرح تلك الامتيازات.
و«علاقة الحماية» هذه منعت فرنسا بعض المنع من أن تسترسل في خطط الاستعمار الجامح للمدى الذي بلغته في الجزائر ، هذا إلى أنها دخلت تونس بعد دخولها الجزائر بخمسين سنة، ووجدت في ذلك القطر شعبا متماسكا، يتبع حكومة وطنية واحدة وعلى نوع من المعرفة بأساليب الاستعمار وعلى مقدار من الخبرة بالحضارة الجديدة يكفل له مقدرة على المشاركة في الاستثمار والاستغلال. بيد أن فرنسا لم تقصر - علم الله - في أن تحاول إيثار رعاياها ومن هم في حكم رعاياها من النزلاء الأجانب على الوطنيين، ولم تقصر في حرمان هؤلاء من حقوقهم في بلادهم وعزلهم عن عالم المشرق إلى أقصى حد ممكن، وأن تفرض عليهم أن يتجهوا نحوها في كل شيء.
وأثار هذا كله الشعب التونسي، ونشأت عنه الحركات الوطنية، وهذه حملت في أيامنا بعد كفاح مرير على الاعتراف باستقلال تونس، وإن كانت تقيده قيود، وتألفت حكومة تونسية أعلنت النظام الجمهوري، وتختلط حركة التحرير التونسي في أيامنا بالحركة المماثلة في المغرب الأقصى، والحركتان تختلطان بكفاح الجزائر العظيم. (3) الجزائر
يمثل قطر الجزائر بين أقطار المغرب العربي ما كانوا يعرفونه في القديم باسم المغرب الأوسط؛ أي ما يقع بين إفريقية (تونس) والمغرب الأقصى (المملكة المغربية)، وهو على ما ترى تتصل أقسام منه أحيانا بتونس وأحيانا بالمغرب الأقصى، وأحيانا يكون كله من أقاليم الدول المغربية العامة الكبرى.
وفي العهد العثماني لم يكن قطر الجزائر وحدة إدارية، بل تبع مدينة الجزائر وتبع قسنطينة وتبع وهران، وهذه ثغور بحرية يمتد نفوذ أصحابها الخاضعين للسيادة العثمانية إن كثيرا وإن قليلا في الأراضي الداخلية، وهذه بلاد قبائل وعشائر والنفوذ فيها للعصبية القبلية وللزعامات الدينية.
وفتح فرنسا للجزائر بدأ في سنة 1830 - وكان إعادة لمحاولة فتح مصر في 1798 - ويمثل الحلقة الثانية من حركة الاستعمار الفرنسي الحديث.
وقد ختمت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي القديم - وهو «تجاري» في الغالب - وبدأت الثورة الفرنسية الاستعمار الفرنسي الحديث؛ فهو نتيجة «الحيوية» التي بعثتها الثورة، وهو فرض لسيادة فرنسا «الثورية» «المتحررة» على الشعوب، وهو نقض القديم السلاح، وهو سلب الحقوق الموجودة ليسلم المسلوب «حقوق الإنسان»، وهذا منتهى البذل والسخاء! ثم انصم الانقلاب الصناعي - وقد صاحبت بوادره مطلع القرن التاسع عشر - للثورة الفرنسية في تشكيل هذا الاستعمار الفرنسي الحديث.
حاولت فرنسا امتلاك مصر في 1798 وأخفقت، ولم تحاول إعادة الكرة؛ لأنها أدركت أن إعادة المحاولة تعيد العوامل التي حاربت حملة 1798، واكتفت من مصر بالارتباط بها بصلات شتى. وكان أن اتجهت نحو الجزائر حيث السيادة العثمانية على درجة من الوهن لا تحمل السلطان أن يتكلف في الدفاع عن الجزائر ما تكلفه في الدفاع عن مصر، مفتاح الحرمين وحيث السلطات المحلية متفرقة في الثغور وفي الداخل، فلا تجتمع الكلمة على المقاومة.
Halaman tidak diketahui