Tanpa Halangan
بلا قيود: تقنيات حررت البشر ودفعتهم لحافة الهاوية
Genre-genre
في أبريل عام 2006م، كان الكاتب وعالم الجغرافيا، جاريد دياموند، واقفا في طابور بمطار في بورت مورسبي في غينيا الجديدة، متأهبا لصعود طائرة متجهة إلى داخل الجزيرة، حيث كان يجري دراسة طويلة الأجل على سكان مرتفعات غينيا الجديدة. أخذ دياموند يتأمل حقيقة أنه رغم أن الناس المتكدسين في مطار مورسبي كانوا غرباء بعضهم عن بعض، لم يكن ثمة أثر لعداء أو عنف؛ فقد لاحظ دياموند أنه رغم أن هذه «سمة من السمات التي نسلم بها في العالم الحديث، فإنها كانت من الأشياء المستحيلة الحدوث عام 1931م، حين كانت مقابلة الغرباء أمرا نادرا وخطيرا، ومن المرجح أن يؤدي إلى اندلاع العنف.» أما في عام 2006م فكان شعب غينيا الجديدة يعيش في مجتمع حديث، به المسئولون عن تنفيذ القانون المستعدون للتدخل في حالة وقوع أعمال عنف، لكن في غينيا الجديدة عام 1931م «كانت فكرة السفر من قرية جوروكا إلى قرية وابيناماندا، دون أن تقتل لكونك غريبا مجهولا خلال العشرة أميال الأولى ... ضربا من الخيال.»
1
لم يكن سكان مرتفعات غينيا الجديدة بأي حال من الأحوال استثنائيين في ريبتهم البالغة تجاه الغرباء؛ فخلال الجزء الأكبر من تاريخ البشر عاش الناس حياتهم داخل جماعات رحالة صغيرة تضم أعدادا لا تزيد على بضع عشرات الأشخاص، وكانوا يتعرفون على بضع مئات من أفراد الجماعات المجاورة والقبائل الأخرى على أكبر تقدير. أما أي شخص خارج هذه الدائرة الصغيرة - حتى إن كان يتحدث اللغة نفسها وينتمي إلى الثقافة نفسها - فلم يكن يعد غريبا فقط، وإنما عدوا محتملا أيضا، وكان يعتبر شخصا جديرا بأن يخشى ويجتنب. علاوة على ذلك، كان دائما ما ينظر للشخص الذي لا يتحدث اللغة نفسها ولا ينتمي للثقافة نفسها باعتباره دون البشر، في انعكاس للتفرقة القديمة بين «نحن» و«هم» التي يمكن أن نلحظها في كل جماعة بشرية وفي كل نوع من أنواع الرئيسيات غير البشرية.
لكن حين صار مئات آلاف الأشخاص، المنتشرون على آلاف الأميال المربعة جميعا أعضاء في مجتمع واحد تحت سلطة حضارة مدنية واحدة، تحررت البشرية من الخوف القديم من الغرباء الذي طالما كان مصدر تهديد دائما في المجتمعات الأكثر بساطة للرحالة والقرويين. ولم تكن السلطة المركزية للمجتمعات المتحضرة لتتساهل مع عمليات المداهمة والخطف والقتل والثأر التي كانت سمة دائمة في حياة المجتمعات البشرية الأكثر بساطة؛ فالحضارات لا يمكنها أن تعمل إلا إن كان مواطنوها قادرين على السفر والتجارة والتفاعل بعضهم مع بعض في ثقة، متحررين من الخوف الدائم من العنف والإصابة بمكروه. وقد تحقق هذا الهدف إلى حد ما باللغة المشتركة واستخدام الرموز والهوية الإثنية للانتماء القبلي، لكن تقنيات التفاعل مكنت المجتمعات المتحضرة من التقدم خطوة أبعد من ذلك.
فقد مكنت تقنية الزراعة بعض الناس الذين يعيشون في قرى مستقرة من أن يتخصصوا في الفنون والحرف التي يمكن مقايضتها مقابل الطعام الذي ينتجه آخرون. كانت المدن القديمة أول مستوطنات بشرية تتكون في أغلبها من ناس تحرروا من الحاجة للبحث عن طعام أو إنتاجه، وكانت الحضارات القديمة أول مجتمعات بشرية يتفاعل فيها أعداد كبيرة من الغرباء بحرية في جو من الأمان والثقة. فكانت هذه تطورات جديدة كلية في تاريخ المجتمع البشري.
النجارون والنساجون والبحارة والناسخون
مع انتشار الزراعة تدريجيا في عالم العصر الحجري الحديث واستقرار الناس للعيش في قرى دائمة، وجد أنجح المزارعين أنفسهم ينتجون غذاء يفوق ما كانوا بحاجة لاستهلاكه، وبدأ الفائض يتراكم في شونهم ومخازنهم. وعلى عكس الشعوب في مجتمعات الصيد وجمع الثمار - حيث كل البالغين من أعضاء الجماعة الاجتماعية تقريبا يكرسون أغلب وقت إنتاجيتهم للصيد وجمع الطعام - بدأ بعض قرويي العصر الحجري الحديث يصنعون أشياء يستطيعون مقايضتها من أجل فائض الطعام الذي ينتجه آخرون. ولأول مرة في تاريخ البشر، صار أعضاء كثر في جماعة البشر متحررين من الحاجة بلا انقطاع للصيد وجمع الطعام، ونشأ تقسيم العمل الذي نسميه «الاختصاص الحرفي».
بدأ بعض القرويين يتخصصون في عملية شحذ الأنواع المناسبة من الأحجار وصقلها لصناعة الأسلحة، وأدوات النجارة، ومعدات الزراعة، وهذه العملية تستلزم عمالة كثيفة. وصار آخرون نجارين، وتخصصوا في تركيب الأسطح والأبواب والنوافذ والأثاث للمساكن المستقرة التي كانت أسر العصر الحجري الحديث تعيش فيها لسنوات. كذلك صار آخرون نساجين، وتعلموا كيف يغزلون الخيوط ويصبغونها وينسجون منها أقمشة، في حين تخصص آخرون في دبغ جلود الحيوانات وصناعة منتجات جلدية منه.
وأخيرا، في مجتمعات العصر الحجري الحديث اللاحقة، صار بعض الناس صانعي فخار وأنتجوا أوعية الخزف المستخدمة في الشرب والطهي وتخزين الغلال. وبدأ النجارون المقيمون على سواحل البحار وضفاف الأنهار يتخصصون في بناء القوارب وتصليحها، وأصبحوا أول صناع سفن. وتعلم نجارون آخرون كيفية تركيب وتصليح العربات ذات العجلات التي تجرها الثيران والحمر الوحشية الآسيوية، وصاروا أول من صنع العجلات والعربات وأول من أصلحها.
بعض القرى الزراعية التي بدأت في الأصل ببضع عشرات من السكان صارت في النهاية بلدات بها آلاف السكان، ومكنت تقنيات النقل الجديدة أكبر هذه البلدات من توسيع نفوذها على سكان العديد من البلدات والقرى الأصغر منها حجما في جوارها. وببطء ولكن بثبات بدأت مستوطنات العصر الحجري الحديث الأكبر حجما والأكثر نفوذا تهيمن على البلدات والقرى الأصغر حجما الواقعة بقربها.
Halaman tidak diketahui