وسعل حسن سعالا مصطنعا، وقال بلهجة جديدة ودون تلعثم: لا أحب أن أطيل عليك. آن لي أن أذهب شاكرا بعد قبض مقدم الأتعاب.
فقال العجوز بجزع: الآن؟! - خير البر عاجله؛ لست إلا مغنيا متواضعا لا تتعدى أتعابه - هو وتخته - الخمسة جنيهات، وأقنع الآن بجنيه واحد.
وصمت الرجل متحيرا حينا، ثم قال لنفسه: «الأمر لله من قبل ومن بعد.» وفتح درج المكتب وتناول جنيها ووضعه على المكتب فأخذه حسن وذهب وهو يقول: ربنا يتم بالخير.
35
جاء الترام فركبت نفيسة وتبعتها على الأثر صاحبة البيت، أرادت المرأة أن تصحبها إلى بيت عم جبران التوني لتقدمها إلى آله بنفسها، وقد أخذت نفيسة زينتها، وصنعت من وجهها خير ما يمكن أن يصنع منه، وارتدت أحسن ما عندها من الثياب، ولم يكن يغيب عن شعورها لحظة واحدة ما في رحلتها من غرابة. وقد قالت لنفسها كثيرا إنه من الجنون أن تذهب إلى هذا البيت، ولكنها لم تدر كيف تنبذ هذه الفرصة السعيدة التي فرحت بها أمها أيما فرح. والحق الذي لا مرية فيه أن حديثها لنفسها هذا لم يعبر عن حقيقة رغباتها، أو أنه دارى هذه الرغبات مداراة لم تخف عنها، كانت تود رؤية العروس مهما كلفها هذا من عناء، وكانت رغبتها من القوة والتغلغل بحيث لا يمكن مقاومتها. وليس يمكن القول بأنها كانت تريد أن تقيس جمالها بجمالها؛ فهي تعلم بالبداهة أنها - العروس - أجمل منها، وليس في هذا من جديد، ولكن على رغم وضوح هذه الحقيقة ظلت رغبتها في رؤية الفتاة مشتعلة لا تقاوم، وكأن رباطا وثيقا يصل أسبابها بأسبابها، ويقرن مصيرها بمصيرها، ولم تكن أفاقت من أثر الصدمة العنيفة التي هرست نفسها وجسدها هرسا، ولكن انقضاء أيام أخمد الثورة الهائجة، في ظاهرها على الأقل، وأحل محلها مرارة سامة ويأسا مميتا، وشعورا معذبا بالوحشة، كأنها غريبة بين أهلها، شاذة عن المخلوقات، إلى إحساس بالظلم طاغ بعث في نفسها رغبتين متناقضتين تناوبتاها تناوبا متواصلا؛ رغبة في التمرد والجموح، ورغبة في الاستزادة من الظلم والتعذيب حتى الموت، وقد ركبت الترام وهي على هذه الحال، وتلهفت على اللقاء القريب وهاتان الرغبتان المتناقضتان تتعاورانها. وغادرتا الترام بعد محطات أربع، واتجهتا إلى شارع الوليد، ثم مالتا إلى عمارة كبيرة تقوم في أسفلها بقالة عم جبران التوني، وصعدتا إلى الدور الثاني، ودخلتا شقة به، واستقبلتهما سيدة في الخمسين متوسطة القامة مفرطة في السمنة، بيضاء البشرة، فدخلن جميعا حجرة الاستقبال، وما إن استقر بهم المجلس حتى قالت الست زينب - صاحبة بيت نفيسة: هذه ست نفيسة، وستشهدين لها بالمهارة والذوق.
فقالت السيدة: حدثتنا ست زينب عنك كثيرا، أهلا وسهلا.
وآلمها الثناء كأنه سب وهجاء، وأغاظها وأحنقها لسبب لا تدريه، وتزعزعت ثقتها في أعصابها أن يفلت زمامها من يدها. أما السيدة فمالت نحو باب الحجرة ونادت بصوت مرتفع «عديلة» ودق قلب نفيسة، ورجحت أنها تنادي العروس وخيل إليها أنها تسمع سلمان وهو يهتف بهذا الاسم، وخالته يضمها إلى صدره وقد أذهلته حرارة العاطفة وراح يقول لها بصوته المتهدج «عديلة، أحبك، أحبك أكثر من الدنيا والآخرة معا»، فهذا قوله عادة إذا أذهلته حرارة الإحساس. وهو قول كاذب أو هكذا كان بالنسبة إليها، والغالب أن الدنيا كذبة كبيرة. وتوجه رأسها نحو الباب، متألمة قانطة حانقة، وعندما سمعت وقع أقدام آتية داخلها إحساس آخر بالخوف فودت لو كان بوسعها أن تختفي، ولعله كان إحساسا عارضا سطحيا. وجاءت فتاة في مقتبل العمر، متوسطة القامة كأمها بيضاء البشر، بيضاوية الوجه، كبيرة القسمات، ولكن في تناسق حسن، بيد أنها سمينة لحد الإفراط. وتساءلت نفيسة في نفسها كيف تصير إذن إذا تزوجت! واضطربت في أعماقها ضحكة ساخرة متوترة، لم يتح لها التنفس. وذهب عنها الخوف العارض، وشعرت باضطراب عصبي بذلت جهدا شديدا للتغلب عليه، وتم التعارف وتبادل السلام دون أن تنبس؛ خشية أن تخونها نبرات صوتها. ولدغتها الغيرة فمزقت قلبها شر ممزق؛ هذه التي سلبت رجلها، رجلها دون غيرها بعد ما كان، فلا توجد امرأة لها مثل ما لها عليه من حقوق، فكيف تكون هذه الجاموسة عروسة، وتكون هي الخياطة التي تعد لها ثياب العروس؟! من أجل هذا تستحق الدنيا أن تكون طعمة للنيران، ولن تكون أحمى من النيران التي تلتهم قلبها. رباه! كيف تستطيع العمل بهذه الأعصاب المريضة؟! وغادرت المرأتان الحجرة تاركتين الفتاتين معا. وجاءت خادم بالأقمشة ووضعتها إلى جانب نفيسة على الكنبة، فوجدت مهربا من أفكارها وراحت تتفحصها باهتمام ظاهري، وعيناها المنكستان تسترقان النظر إلى قدمي العروس، وسألتها العروس قائلة: هل سبق أن خطت ثياب عرائس؟
ورفعت إليها عينيها فيما يشبه الدهشة، كأنها لم تكن تتوقع أن توجه إليها خطابا وقالت باستهانة: كثيرا جدا ... - أظن هذا يجعل العمل يسيرا عليك. - لا أجد فيه أثرا لصعوبة.
كانت إجابتها تعبيرا عن إحساس بالتمرد والثورة، يتجمع في أعماقها لم تعبأ معه بالحقيقة والواقع، وصمتت العروس هنيهة، ثم عادت تسألها قائلة: هل تسكنين في عمارة ست زينب؟
فقالت مدفوعة بالإحساس نفسه: نعم، منذ أعوام طويلة. كان المرحوم أبي موظفا بوزارة المعارف. - أخبرتنا بهذا ست زينب، ألا تعرفين أن بقالة العريس قريبة من عمارتكم؟
Halaman tidak diketahui