وذكر في حزن أنه لا يعرف لنفسه أقارب غير خالته هذه، وسيبقى هذا القبر المغمور في العراء رمزا لضياعهم المخجل في هذه المدينة الكبيرة، وازداد ضيقا بوجود هذا الرجل الذي احتل فراشه. فآثر الصمت حتى يقطع عليه سبيل الكلام. وساد الصمت حتى رنق النوم بأجفانهم. وفي الصالة لم تبارح الأم وأختها وابنتها مجلسهن، ولم يتعبن من الحديث عن الفقيد العزيز. وكان الشعور بالفاجعة هنا أعمق من الحجرة الأخرى. وقد ارتسمت أماراته على وجه الأم النحيل البيضاوي وعينيها الملتهبتين. وكانت بأنفها القصير الغليظ وذقنها المدبب وجسمها النحيل القصير؛ توحي بأنها وهبت الأسرة خير ما فيها، فلم يبق من حيويتها إلا نظرة قوية تنم عن الصبر والعزم.
وكان التغير الطارئ عليها من العمق بحيث يتعذر تصور ما كانت عليه أيام شبابها، إلا أن ابنتها نفيسة كانت تعيد حياتها وصورتها بدقة كبيرة، كان لها هذا الوجه البيضاوي النحيل والأنف القصير الغليظ والذقن المدبب، إلى شحوب في البشرة، واحديداب قليل في أعلى الظهر، فلم تكن تختلف عن أمها إلا في طولها المماثل لطول شقيقها حسنين. كانت بعيدة عن الوسامة وأدنى إلى الدمامة، وكان من سوء الحظ أن خلقت على مثال أمها، على حين ورث الإخوة خلقة أبيهم. وكان الحزن قد أتى عليها فبدت في صورة بشعة واستغرقت فكرها ذكريات والدها الحبيب. أما الأم فعلى حزنها الشديد دارت برأسها خواطر أخرى. كان يداخلها نحو أختها شعور بعدم الارتياح. ولم تستطع أن تنسى أنها كانت تنغص عليها حياتها، وأنها كان يحلو لها كثيرا أن تقارن بين حظيهما فتقول: إن أختها تزوجت من موظف، أما زوجها هي فعامل في محلج قطن، وإن أختها تقيم في القاهرة، وهي مقضي عليها بالحياة في الريف، وإن أبناء أختها تلاميذ وأبناءها هي لا حظ لهم إلا حظ العمال، وإن كرار أختها لا ينضب معينه، أما بيتها فلا يعرف السعة إلا في المواسم. لعلها لا تجد الآن ما تحسدها عليه. وامتلأت نفسها امتعاضا إلى ما بها من حزن. إنها تدرك من هول الكارثة ما لا يدركه أحد. انتهى زوجها، وإنها لتتلفت يمنة ويسرة فلا تجد أحدا تعرفه إلا هذه الأخت التي لا يعقد بها رجاء. لا قريب ولا نسيب. ولم يخلف الراحل شيئا. وهيهات أن تأمل في معاش مناسب وقد كان مرتبه كله يستنفد في ضرورات الأسرة. وقد وجدت في محفظته جنيهين وسبعين قرشا هي كل ما تملك من نقود حتى تنتظم الأمور. ورنا بصرها إلى حجرة الأبناء في سهوم. اثنان في المدرسة، معفيان من المصاريف حقا، ولكن هيهات أن يغني هذا عنهما شيئا. أما الثالث ففي حكم الصعاليك! وتنهدت من الأعماق، ثم حولت عينيها إلى نفيسة فتقطع قلبها ألما. فتاة في الثالثة والعشرين من العمر بلا مال ولا جمال ولا أب. وهذه هي الأسرة التي باتت مسئولة عنها بلا معين. بيد أنها لم تكن من النساء اللاتي يفضضن همومهن بالدموع. وأن حياتها الماضية وإن أمست حلما سعيدا موليا إلا أنها لم تكن يسيرة، خصوصا في مطلعها حين كان المرحوم موظفا صغيرا ذا جنيهات معدودات، وقد علمتها الصبر والجلد والكفاح. كانت دائما قوية، وكانت محور البيت الأول، بل كانت على الأرجح تقوم بدور الأب، على حين كان المرحوم أدنى إلى حنان الأمهات وضعفهن. والأبناء أنفسهم مثال حي على التباين بين الأب والأم، فكان حسن شاهدا تعيسا على رخاوة الأب وتدليله، وكان حسين وحسنين شاهدين على حزم الأم وحسن تربيتها. أجل كانت أرملة قوية، ولكنها لم تمتلك في تلك اللحظة من الليل إلا اجترار الحزن والقلق.
6
في مساء اليوم التالي لم يبق في الدار أحد غير أهلها، وقد كوم أثاث حجرة الراحل في ركن منها وأغلق بابها. واجتمع الأبناء حول أمهم وهم يشعرون بأنه آن لهم أن يسمعوا لها. وكانت الأم تعلم بأنه ينبغي لها أن تتكلم. ولم يختلط عليها الأمر فيما يجب قوله؛ فقد كانت فكرت فأطالت التفكير، ولعله لم يكن يحيرها شيء مثل هذا التناقض بين ظاهرها الدال على الحزم والقوة، وباطنها الذي يندى رحمة وعطفا على أسرتها البائسة. وخفضت عينيها متحامية النظرات المصوبة نحوها وقالت: مصيبتنا فادحة، ليس لنا إلا الله، والله لا ينسى عباده.
لم يكن بوسعها أن تتساءل «ما عسى أن نفعل؟» وهيهات أن تنتظر جوابا من أحد من المحيطين بها، حتى كبيرهم حسن. وليس في الدنيا أحد تستطيع أن تلقي إليه بهذه الاستغاثة فتشركه في بعض همها.
شعرت بالخلاء يكتنفها، ولكن أبت أن تستسلم لليأس، واستدركت تقول: ليس لنا من قريب نعتمد عليه، وقد رحل العزيز الغالي دون أن يترك شيئا إلا معاشه، ولا شك أنه دون المرتب الذي كان لا يكاد يكفينا. فالحياة تبدو كالحة الوجه، ولكن الله لا ينسى عباده. وكم من أسرة مثلنا صبرت حتى أخذ الله بيدها فشقت طريقها إلى بر الأمان.
واختنق صوت نفيسة بالبكاء وهي تقول: لا أحد يموت جوعا في هذه الدنيا، وسيأخذ الله بيدنا، أما المصيبة التي تجل عن العزاء فهو موته هو. أسفي عليك يا بابا.
ولم تحدث هذه الدموع أثرا عميقا؛ لأن كلام الأم أنذر بأمور خطيرة استأثرت بجل اهتمامهم، فثبتت أعينهم على أمهم التي عادت تقول: لا يجوز إذن أن نيئس من رحمة الله، ولكن ينبغي أن نعرف رأسنا من قدمنا وإلا هلكنا، وأن نوطن نفوسنا على تحمل ما قدر لنا من حظ بصبر وكرامة، وربنا معنا.
وأحست بأن معين الكلام العام قد نفد، وأنه ينبغي أن تخاطب الأبناء، كل بما يعنيه، ورأت عن حكمة أن تبدأ بمن هو أقل خطورة، تمهد به لمن هو أشد خطورة، فنظرت صوب حسين وحسنين، وقالت بصوت هادئ أن تكشف عما لحق قلبها من تأثر: لن يكون في الإمكان إعطاؤكما أي مصروف يومي، ومن حسن الحظ أن المصروف ينفق عادة في وجوه تافهة.
وجوه تافهة! اشتراك نادي الكرة، السينما، الروايات، أهذه وجوه تافهة؟! وقد تلقى حسين الحكم في وجوم، وتاه عقله متخيلا الحياة بلا مصروف، ولكن دون أن ينبس بكلمة. أما حسنين فقد انقض الحكم عليه كالصاعقة، وسرعان ما قال معترضا، وبلا وعي تقريبا: كل المصروف؟! ولا مليم؟!
Halaman tidak diketahui