فما تمالكت أن ضحكت وقالت: بل هذه الليلة فحسب؛ ليس لي مكان أنام فيه، وسأكلفك أكثر مما تحتمل ما دمت تجيء بطعامك من السوق.
وقبل أن يتكلم دق الباب فقام إليه، وسمعت الأم صوتا يقول بلهجة ريفية : «سيدي حسان يسأل عما أخرك اليوم.» ثم سمعت حسين يعتذر بحضور والدته من القاهرة، وأغلق الباب وعاد الشاب إلى مجلسه من الفراش، فوجد أمه تنظر إليه بعينين متسائلتين فقال: خادم جاري حسان أفندي باشكاتب المدرسة.
وكانت تعلم من رسائله أنه الرجل الذي أقنعه بالانتقال إلى الشقة، وعاونه على ذلك بضمانته لأثاثه الجديد فقالت: يبدو لي من قول الخادم أنك تمضي عنده فراغك.
وتوهم لحظة أنها مطلعة على سره كله، فقال دون أن ينظر إليها، وهو يشعر بلسعة الخوف تجري في لعابه وتعترض زوره: كثيرا ما أفعل، إنه رجل طيب، وهو إلى هذا رئيسي، وقد وجدت في صحبته ما أغناني عن المقاهي و«مفاسدها» .. لا بد للإنسان من تسلية يزجي بها فراغه.
ثم قامت الأم إلى الحمام فغسلت وجهها، وخلعت معطفها فتناوله حسين، ونفض عنه الغبار بفرشاته، وهو يدعو الله أن تمر الزيارة بسلام، أجل، قد تولاه القلق وخاف على سره الافتضاح، واضطرب لوجودها في موطن هذا السر، فلعن الظروف السخيفة التي أجبرته على منع النقود عنها. وعادت المرأة إلى مجلسها وأخذت تسائله عن أحواله وحياته، ولكن لم يمتد حبل الحديث طويلا لأن الباب دق مرة أخرى، فذهب حسين ليفتحه فيما يشبه الحنق، وكان القادم هو الخادم نفسه، وقد قال بصوت بلغ مسمعيها: الست الكبيرة ترغب في أن تحيي الست والدتك.
ونهضت الأم مسرعة وخرجت إلى الردهة وقالت للخادم: لا يوجد مكان هنا لاستقبالها، سأزورها بنفسي.
وذهب الخادم فعاد إلى الحجرة وحسين يقول: لا داعي لهذه الزيارة، ولا يجوز أن نفترق دقيقة واحدة في المدة القصيرة التي تمكثينها هنا.
فتنهدت قائلة: مجاملات لا بد منها، ولا يخفى عليك أنه يهمني أن أجامل أسرة رئيسك.
وعاودا حديثهما ردحا من الزمن حتى خفت حدة النور، وأقبل الأصيل فنهضت الأم لترتدي معطفها قائلة: «آن لي أن أزور حرم جارك.» وراقبها الفتى بعينين كئيبتين حتى غادرت الشقة، ثم تنهد من الأعماق وتساءل: «ترى هل يساورها شك؟ .. كيف تنتهي هذه الرحلة؟!»
54
Halaman tidak diketahui