تولى آهرنبروج الترجمة على دفعات كان يعقبها بابتسامات تخيلت أنها ابتسامات استخفاف، ودار بينهما نقاش بالفرنسية، خفيف ضاحك أول الأمر، ثم شابه بعض الجد والتأمل في النهاية. وأخيرا قال آهرنبروج: صديقي سارتر وأنا مبتهجان لرأيك، ولكن لا تنتظر منا أن نفكر فيه جديا. فإلغاء الوجودية إلغاء لسارتر، وإلغاء الاشتراكية إلغاء لي، فهل أنت قادم من القاهرة لتلغي المعارك الطويلة التي خضناها، وتلغي وجودنا كله بجرة قلم؟
الحديث دار في أحد أيام يناير من سنين، ما زلت أذكره، وما زلت كلما أحسست ببرد يناير تذكرت فيينا وأدق تفاصيل ذلك اللقاء. (25) كامل الشناوي
3
خطر لي خاطر عجيب وأنا جالس تضمني تلك السهرة الجميلة التي يعقدها الأستاذ كامل الشناوي في مكتبه كل مساء.
فالأستاذ كامل على الرغم من قلبه الكبير الذي يسع الفن والفنانين جميعا، وموهبته التي تحيل الشعر إلى شيء ساحر يخطف الأبصار والعقول، حتى عقول أعداء الشعر أنفسهم.
وعلى الرغم من أنه أروع محدث وأكثر الناس ظرفا ولباقة وكياسة، إلا أنه يتمتع بخاصية غريبة قد لا يصدقها أحد، ذلك أنه يخاف من الموت. وكلنا نخاف الموت، ولكن الأستاذ كامل يخاف منه خوفا حقيقيا لا هزل فيه، خوفا يجعله يعامل الموت كما لو كان عدوا شخصيا له من دم ولحم يتربص به لينتهز الفرصة المناسبة وينقض عليه. وقد يرى البعض أن هذه نقيصة، ولكن الواقع أن أستاذنا كامل الشناوي أحالها إلى ميزة كبرى. وإليكم ما يحدث: هو لا يستيقظ في العادة قبل العاشرة، وأول ما يفعله إذا استيقظ أن يقرأ جرائد الصباح، ويقرؤها بالمقلوب بادئا بصفحة الوفيات ليطمئن إلى أن كل شيء على ما يرام، وأن عدوه اللدود الموت لم يختطف أحدا ممن يعرفهم أو له بهم صلة.
ولكن معارف الأستاذ كامل كثيرون جدا، ولهذا فلا بد أن يجد أن أحدهم قد مات أو على الأقل يحتفلون بذكرى أربعينه. في الحال يتولاه انزعاج عظيم، انزعاج يزوده بطاقات نشاط لا حد لها تجعله يغادر الفراش ويرتدي ملابسه على عجل ويترك البيت. ولولا شبح عدوه اللدود، ما كانت قوة في الأرض تستطيع أن تجعله يغادر الفراش المريح.
يهبط الأستاذ كامل من المنزل ويتخفف من إحساسه بالمسئولية تجاه من مات، فيرسل تلغراف عزاء أو باقة زهور ليجنب نفسه مشقة السير في الجنازة. يتخفف لأنه يعتقد أن ذلك الشخص الذي مات راح ضحية بريئة لعدوه هو، ولهذا فهو يعد نفسه مسئولا أمام ضميره عن ضحايا عدوه.
ولا يطمئن الأستاذ كامل إلا حين يرى الناس في الشارع رائحين غادين لا يخطر لهم الموت على بال، ولكن اطمئنانه لا يطول، إذ ماذا يحدث لو خطر ببال عدوه البغيض أن ينفرد به وسط الشارع وهو وحيد بين أناس لا يعرفهم ولا يعرفونه؟ لا بد إذن من البحث حالا عن الأصدقاء فبينهم يستطيع أن يطمئن على نفسه. وهكذا؛ النائم من أصدقائه يوقظه، المريض يزوره، والبعيد يدق له تليفونا. ولا بد أيضا من العمل، فالإنتاج هو المصل المضاد للموت. والعمل كثير؛ عمل في الجمهورية، وقصائد يلح عبد الوهاب في طلبها، ويوميات، وكتاب بدأه من سنين ولا يريد أن ينتهي. ويبدأ كامل الشناوي يكتب، ويمسك القلم بيده السمينة الحنونة ويملأ الصفحات. يبدأ الكتابة وفي ذهنه الخوف من الموت، ولكنه لا يلبث أن يغرق فيما يكتبه. ولا تخرج الكلمات من قلمه كلمات، بكل شاعريته يملؤها سحرا ومرحا ويودعها روح الحياة وكأنما يتحدى بها خوفه وخوف الناس من الموت.
وحين ينتهي يكون المساء قد حل، فلا يكاد يبدأ يحس بالوحدة ومن ثم بالانزعاج، حتى يبدأ الأصدقاء والمعارف والزملاء يتوافدون على مكتبه، ومن تلك الساعة يتحول مكتب كامل الشناوي إلى تلك المدرسة الفكرية التي تدخلها فارغا وتخرج منها مكهربا كالبطارية التي أعيد شحنها. كامل الشناوي جالس يتحدث ويفكر ويسخر ويناقش، صوته فيه كل قوة الحياة وجسده فيه كل سخائها وعقله في دقة الجهاز الثمين، ويخرج الآراء ويلقي بالمقترحات.
Halaman tidak diketahui