Between Guidance and Lostness
بين الرشاد والتيه
Penyiasat
(إشراف ندوة مالك بن نبي)
Penerbit
دار الفكر
Nombor Edisi
الأولى
Tahun Penerbitan
١٩٧٨م
Lokasi Penerbit
دمشق سورية
Genre-genre
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
***************
بين الرشاد والتيه
دار الفكر المعاصر- بيروت لبنان
دار الفكر-دمشق سورية
1 / 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بين الرشاد والتيه
1 / 2
مالك بن نبي
مشكلات الحضارة
بين الرشاد والتيه
بإشراف ندوة مالك بن نبي
دار الفكر
دمشق-سورية
1 / 3
جميع الحقوق محفوظة
١٤٢٦هـ - ٢٠٠٢م
ط١: ١٩٧٨م.
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
في عام ١٩٧١م ترك أستاذنا مالك بن نبي- ﵀ في المحكمة الشرعية في طرابلس لبنان، وصية سجلت تحت رقم ٢٧٥/ ٦٧ في ١٦ ربيع الثاني ١٣٩١هـ الموافق ١٠ حزيران (يونيو) ١٩٧١م، وقد حملني فيها مسؤولية كتبه المعنوية والمادية.
وتحملا مني لهذه الرسالة، ووفاء لندوات سقتنا على ظمأ صافي الرؤية، رأيت تسمية ما يصدر تنفيذا لوصية المؤلف (ندوة مالك بن نبي).
والتسمية هذه، دعوة إلى أصدقاء مالك بن نبي وقارئيه، ليواصلوا نهجا في دراسة المشكلات، كان قد بدأه.
وهي مشروع نطرحه بوصفه نواة لعلاقات فكرية، كان ﵀ يرغب في توثيقها.
وإنني لأرجو من أصدقاء مالك وقارئيه، مساعدتنا على حفظ حقوق المؤلف في كل ما ينشر بالعربية أو الفرنسية مترجما من قبل المترجمين أو غير مترجم. فقد حمّلني- ﵀ مسؤولية حفظ هذه الحقوق، والإذن بنشر كتبه. فإن وجدت طبعات لم تذكر فيه إشارة إلى إذن صادر من قبلنا، فهذه طبعات غير مشروعة، ونرجو إبلاغنا عنها.
طرابلس لبنان ١٨ ربيع الأول ١٣٩٩هـ
١٥ شباط (فبراير) ١٩٧٩م
عمر مسقاوي
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
بين الرشاد والتيه
كتاب ضم مقالات كتبها الأستاذ مالك بن نبي بالفرنسية، ونشر معظمها في جريدة «الثورة الإفريقية La revolution Africain» إثر عودته إلى الجزائر بعد الاستقلال في الستينات.
وقد جمعها ﵀ في صيف عام ١٩٧٢م، وترجمها إلى العربية، ثم بوبها وحدد فصولها، واختتمها بكلمة عن الصراع الفكري.
وقد سلمني أصول هذا الكتاب إثر الفراغ منه، فلما قرأته وجدت من المناسب مراجعة النص بما يحافظ على أسلوب الأستاذ مالك، ويزيل إبهام بعض العبارات، وهكذا أصبح الكتاب جاهزا للتداول بين أيدي القراء، في مرحلة من مسيرة الأمة العربية تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها.
فالمقالات هذه تعكس أحداث الستينات في الجزائر كما في العالم العربي والإسلامي. وهي أيضا تطرح مشاكل العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، فتسلط عليها أضواء كاشفة تبرز أبعادها وتنير طريق الكفاح، من أجل القضاء على هذه المشاكل.
ففي الستينات، كانت في الجزائر مهمات البناء الجديد للدولة، في الإطار السياسي والإداري والاقتصادي، وكان الأستاذ مالك يواجه بفكره هذه المهمات،
1 / 7
يرصد الأحداث اليومية والمبادرات المستقبلية. ثم يخرج على الناس بمقالات، تحدد مفاهيم العمل ومقاييسه الثابتة، حتى لا تضل في المفاهيم الغربية المستوردة، أو تتيه في زحمة التضليل المتداول في سوق الصراع الفكري.
وفي هذا الإطار كان الأستاذ مالك يتخذ من مواقف الأمس والحاضر أدلة للتوضيح والمناقشة.
فإذا تحدث عن الثورة في العصر الحديث، اتخذ من الثورات المعاصرة نماذج وأمثالا: الصين وكوبا وما أكثر ما ضجت بأحداثهما الستينات، وما أكثر ما خرج حولهما من تعليق. وما أكثر ما ربط الناس بين التطور والماركسية في تلك المرحلة، وما أكثر ما تحدث زعماء العالم الثالث عن الاشتراكية والتقدمية بوصفهما خطة في معركة البناء والتحرر:
كان حتما على رجل المنهج أن يستخرج الضوابط لهذه التطورات؛ فيطرح ما علق فيها من أوهام ترتبط بالبنية الفكرية للإنسان المتخلف في العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، ويأخذ الذي يثري مبادرات التغيير والتطور بتجربة فتية راهنة.
لذا استشهد الأستاذ مالك بكثير من المبادرات التي حفل بها العالم الحديث؛ فكانت اليابان مثلا لنهضة استقامت على سنة التاريخ، فأعطت وأثمرت منذ العصر الميجي في منتصف القرن الماضي، وكان الحديث عنها شاهدا على عقم ما اتبعت النهضة الإسلامية الحديثة من سبل فتفرقت بها عن سبيل الأصالة والسنن التي أودعها الله الحياة.
وكانت الصين، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، ومن بعدها كوبا، أمما أمثالنا؛ وقد واجهت أفكار هذه الأمم وقياداتها مشاكلها بتجربة واعية مدركة، فسارعت إلى مكانها في الإسهام في مصير العصر الحديث، في الإطار السياسي
1 / 8
والاقتصادي، فكان لابد إذن من مثل يؤخذ من هذه التجربة، ومثل يؤخذ من تلك التجربة، على الرغم من التباين المذهبي والسياسي بين التجربتين كلتيهما.
فحين يتحدث الأستاذ مالك عن اليابان حينا، وعن الصين أحيانا، على الرغم من أن الأولى ذات نظام رأسمالي والثانية ذات نظام شيوعي؛ فلكي يزيل عن أذهان العالم الثالث، ما قد فرضته معطيات الحياة المعاصرة، من حتمية الاختيار بين أي من النظامين في مواجهة ضرورات المستقبل.
فالأستاذ مالك يهتم بتوضيح الضوابط الفنية للحركة الاجتماعية، التي تتكون في بنائها ثقافة كل مجتمع، ويتكون في إطار هذه الثقافة حضارة توفر الشروط والضمانات الضرورية لأفراد ذلك المجتمع.
وهو في كل ما حدد من ضوابط في هذه المقالات في الإطار الثوري أو السياسي أو الاقتصادي، إنما يثري الفكر الإسلامي برؤية جديدة، يتعامل من خلالها مع القيم التاريخية والأصالة التي أودعها الإسلام ضمير العالم الإسلامي عبر العصور.
فالأستاذ مالك، يدعو إلى بعث هذه القيم في إطار ثورية حقيقية، ترتكز في أساسها على ما ارتكزت عليه الثورة الإسلامية في عهد النبوة، لذا يربط الأستاذ مالك بين معطيات السنن الإلهية في تطوير المجتمعات وتغييرها، وبين نجاحها الفعلي في كل أمة اتخذت طريق هذه السنن في مواجهة مستقبلها، مهما كان اتجاهها الفكري والمذهبي.
هذا الربط، إنما هو تأكيد للقاعدة التي هي سنة الله لا تبديل لها. فالله ﴿لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: ١١/ ١٣]. وتغيير ما بالنفس إنما هو تغيير ما بالفكر من رؤية للأمور، وما بالروح من رتابة وجمود.
لذا بدا صوت الأستاذ مالك في هذه المقالات، عاليا وأحيانا منفعلا، وهو
1 / 9
يرى غفلة الأبصار عن حقيقة الهزيمة في حرب ١٩٦٧م في فلسطين. وهكذا ضاع ما كان لهذه الصدمة من أمل في بعث الرؤية الجديدة لمستقبل الأمة العربية، وضاع في إثرها كل عمل جاد في تجميع الثروة الاقتصادية والبترولية للعالم العربي، وتحويلها إلى قيمة اقتصادية عالمية ذات بعد سياسي واقتصادي معا.
لذا أهتم مالك بن نبي في الفصل الأخير، باقتصاد العالم الإسلامي والعالم الثالث على العموم، فوضع لهذا الاقتصاد قواعد التنمية الحقيقية التي ترتبط بالجهد الاجتماعي في أساسها.
هذه المقالات تضعنا أمام حقيقة واضحة، حقيقة ترقب حركات التاريخ المعاصر بنظرة موضوعية لا عقدة فيها ولا كراهية؛ نظرة لا تخاف الماركسية ولا الرأسمالية إنما هي تفصل بين واقعها التاريخي وتجربتها الاجتماعية. وهي تأخذ من هذه التجربة بمقدار ما يوضح القاعدة الأساسية التي هي من سنن الله، أما النماذج التي انتهت إليها تلك التجارب، فهي تحظى من الأستاذ مالك باحترام الجهد الإنساني المتعاون، لكنها أبعد ما تكون علاجا لحالة اجتماعية نحاول الخروج من مأزقها.
فالأستاذ مالك يدعو العالم الإسلامي والدول الإسلامية، إلى تجربة تستمد معطياتها من واقع المشكلة، بعد تحليل عناصرها، دون التأثر بالمفاهيم التي زرعتها الحضارة المعاصرة في أفكارنا، وأسدلت ستارها على أبصارنا.
وهو لذلك يدعو في هذه المقالات، إلى علم اجتماع مستقل يختص بمشكلات العالم الثالث بعد الاستقلال السياسي، ويختط لمستقبله الاجتماعي والاقتصادي، خطة تنمية لا يثقلها اطراد نمو العصر الصناعي في الحضارة المعاصرة، وما أفرز هذا الاطراد من مفاهيم ماركسية ومشكلات رأسمالية.
طرابلس- لبنان- ٣٠ شعبان ١٣٩٨هـ
٤ آب (أغسطس) ١٩٧٨م
عمر مسقاوي
1 / 10
الفصل الأول طريق الثورة
. الاطراد الثوري
. الأخلاق والثورة
. تقلبات عبر استقلال جديد
1 / 11
الاطراد الثوري
عن (الثورة الإفريقية) عدد ٢٣٢ - أسبوع ٢٤ - ٣٠ تموز (يوليو) ١٩٦٧م.
إن العدوان الإسرائيلي وضعنا في أجواء ثورتنا كأننا نعيشها مرة أخرى، والأحداث التي تتابعت منذ ذلك العدوان جعلتنا نتأملها مرة أخرى بعقولنا أيضا.
وها هي ذي نقاط كثيرة حرمنا لهيب المعركة أو قلة خبرتنا من الالتفات إليها في حينها أثناء الثورة الجزائرية، تصبح اليوم تجتذب اهتمامنا، كأنها جديدة علينا.
ولعل كلامنا يكون من قبيل تقرير الواقع، إذا قلنا إن أحدنا يشعر أكثر ما يشعر بالضربة حين تصيبه في مفصل من مفاصله. ويكفينا أن نتصور أو نتذكر الضربة التي تصيبنا في مفصل الذراع أو الركبة، لنقتنع بصحة ما نقول.
وللأطفال في هذا تجربة يومية، ونضيف إلى ذلك أن الجهاز الميكانيكي كثيرا ما يصيبه العطب في مفاصله.
وإذا قدرنا الثورة بوصفها اطرادا، فإن لها روابط تربط بين أطرافها أي مفاصلها، وتكون نقاط الضعف غالبا، عندما ننتقل من مرحلة في الاطراد إلى التي تليها.
1 / 13
ولم يكن ماركس، عندما كتب (تاريخ كومون باريس) رجل أدب، بل عالم حياة بالنسبة إلى الثورة التي فشلت بباريس عام ١٨٧١.
إن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق وهذا كله يخضع لقانون.
فالثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية، بل تمثل فيه نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال.
إن الثورة الفرنسية تضمنت عهد ما قبل الثورة، في صورة مقدمات وجدتها في أفكار (جان جاك روسو) والعلماء الموسوعيين. فكان لهذه الحركة ما يدعمها حتى تحقق لها النجاح يوم ١٤ تموز (يوليو) عام ١٧٨٩. لكن عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة كان فيه خلل، جعل أشباه الثوريين مثل (دانتون وميرابو) يسيطرون عليها، ويحاولون بناء مجدهم على حسابها، حتى في التعامل مع العدو، ليمنحهم انتصارات وهمية يعززون بها موقعهم مثل واقعة (قلمى).
ولقد انتهى بها المطاف بين أيدي نابليون الذي صنع منها- والتاريخ يعترف له بالفضل- قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.
ولكننا مع ماركس ولينين، اكتسبنا في هذا الميدان، معلومات دقيقة، وتقنية ثورية تلم بجوانب الثورة، من مرحلتها التحضيرية إلى مرحلة الإنجاز، ومنها إلى مرحلة الحفاظ على الخط الثوري.
والواقع أن هذه ليست تقنية جديدة في التاريخ، فلو رجعنا إلى الوراء لوجدنا لها أثرا ليس في صيغة حرفية، ولكن في مواقف ثورية محددة.
1 / 14
إننا لو اعتبرنا الإسلام من جهة التاريخ المجردة، لرأيناه ثورة كبيرة غيرت كل البناءات السياسية والاجتماعية والأخلاقية والثقافية في المجتمع الجاهلي. إننا نراها في أصعب الظروف قد غيرت كل شيء، حتى أسماء معتنقيها، فكانت النمو الثوري في أدق ما في هذه الكلمة من معنى.
وإذا كان يسيرا على المعاصرين للرسول الكريم، أن يشعروا بذلك في أنفسهم، فإن محكمة أميركية استطاعت هذه الأيام أن تقدر هذا الأثر في شخص الملاكم محمد علي الذي طلّق حتى اسمه القديم (كسيوس كلاي).
إنها دروس حية نلم بمصيرها حين نوازنها مع أحسن الدروس الثورية في الحاضر، أو مع بعض الأخطاء في ثورات معاصرة.
إن الثورة الإسلامية تقدم لنا أولا درسا عاليا، ربما زهدنا فيه أو تناسيناه، في ضبط السلوك. ففي غزوة أحد حيث يتعرض جيش المسلمين لضربة قاسية من جيش المشركين تحت قيادة قريش، نرى النبي ﵊ يرفض على الرغم من قلة عدد من معه من المهاجرين والأنصار وعدتهم، يرفض سند عبد الله بن أبي وهو على رأس المنافقين واليهود ويقول: «لا يقاتل معنا إلا من هو على ملتنا».
ولم يكن هذا الموقف مجرد اندفاع خاص في لحظة معينة، فالقرآن سيعطي له كل معناه في الآية الكريمة: ﴿لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ [التوبة:١٤٧/ ٩]، مجددا فيها السبب لتجنب القتال مع متطوعين غرباء عن الثورة، أي مجرد مرتزقة كما نقول اليوم.
فالثورة ليست كإحدى الحروب تدور رحاها مع العدد والعتاد، بل إنها تعتمد على الروح والعقيدة.
ولا شك أن هذا المبدأ هو الذي حدد سلوك القيادة السوفيتية أثناء الحرب
1 / 15
العالمية الثانية؛ إذ في أحلك الأيام من معركة القفقاز ترفض مدد الحلفاء يأتيها عن طريق إيران.
إن لكل ثورة منهجا يتضمن المبادئ التي تسير عليها، كما يتضمن فحوى القرارات التي ستمليها عليها ظروف الطريق.
فموقف أبي بكر بعد وفاة الرسول الكريم، عندما ارتدت بعض القبائل من العرب، وزعمت أنها لا تدفع الزكاة وتبقي على غير ذلك مما أتى به الإسلام، قد يبدو فيه لمعاصريه بعض التشدد والغلو، كما يكون موقف المرتدين غير بعيد عن الأمر المعقول، إذا قدرناه من الجانب المادي فحسب دون الرجوع إلى مبدأ يقره المنهج أي تقره فلسفة الثورة القائمة، وكاد عمر بن الخطاب يكون على هذا الرأي، لولا إصرار أبي بكر ﵄ وفصله الموقف بقوله «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه».
ولقد قاتل المرتدين فعلا، حتى نصره الله عليهم النصر المبين.
ولنا نحن، في موقف أبي بكر أسوة حسنة. والعبرة التي نأخذها منه هي:
أننا إذا لم نحفظ في عقولنا وقلوبنا مقدمات ومسلمات الثورة، فلن نفقد (عقالا) فقط بل نفقد الروح الثوري ذاته.
فالثورة قد تتغير إلى (لا ثورة) بل قد تصبح (ضد الثورة) بطريقة واضحة خفية. والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعا ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح (ما ضد الثورة) طبقا لمبدأ التناقض تناقضا مستمرا. حتى في فترة ثورية، نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات، تتبعا لا يغني معه أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك.
1 / 16
وفي الملاحة يعرف ربان السفينة هذه الحقيقة بطريقته، إذ يعرف أنه لا يكفيه أن يقلع بسفينته في اتجاه معين، بل يجب عليه أن يراقب السير على طول الطريق من أجل تعديل الاتجاه من حين إلى آخر.
وهذه الضرورة لا تخفى على الأوطان التي قامت فيها الثورات المعاصرة، حيث نرى الشغل الشاغل بقياداتها أن تحافظ على (الخط الثوري)، وبالتالي فهذه الرقابة، بقدر ما لا تعني هذه الكلمة مجرد لفظة، وإن كانت ضرورية في كل ثورة، فهي أكثر إلحاحا في الأوطان التي لا تكون فيها فحسب خمائر (ما ضد الثورة) نتيجة إفراز المجتمع نفسه بطبيعته، بل تكون بالإضافة إلى ذلك محفوفة بالخطر في الاطراد الثوري من الخارج، على أيدي خبراء يعرفون كيف تجهض الثورات.
والخلاصة أن المجتمع الذي يقوم بثورة على الاستعمار فهو بطبيعة وضعه من ذلك الصنف، أي ذلك الصنف الذي تبدو المسلمة الأولى التي تقوم عليها رقابته، هي تقديره لخمائر (ما ضد الثورة) المحقونة في ثورته على أيدي خبراء الاستعمار.
فإذا عددنا هذا التقدير مجرد وسواس (١)، فذلك يقودنا إلى أن نرى الاستعمار طفلا بريئا تعتدي على براءته ألسنة شريرة، وإن ما حدث في سيناء ما هو إلا أضغاث أحلام خامرت نومنا هذه الأيام.
أما إذا كانت مأساة سيناء واقعا عشناه، فالأولى بنا أن نستخلص منه الدرس الذي تقدمه لنا.
_________
(١) غالبا ما تستولي الذهنية الصبيانية على قياداتنا، فتفضل إلغاء المشكلات حتى لا تتصدى لها ولا تبذل الجهد الذي يقتضيه التصدي، وبالتالي نراها تحقد على من يذكرها بواجبها وتتهمه إما بالوسواس أو بالطموح.
1 / 17
فمن الناحية العسكرية ليست القضية في تفوق العتاد وفي عبقرية موشي ديان، كما لا يمل القوم من تكراره لنا منذ شهر، حتى إنهم ضربوا في ألمانيا الغربية صورته على مدالية تذكارية، لتخدير الرأي العام الدولي، ولتنويمنا نحن.
يجب أن ننظر إلى القضية بدقة أكثر: فالعرب لم يكونوا في سيناء، أمام هنيبعل الإسرائيلي الصغير؛ ولكنهم واجهوا بعقلية الصبيان أجهزة في أعلى مستواها التقني وضعها الاستعمار تحت لواء إسرائيلي، ثم أمر اليهود بقصف سفينة التجسس (ليبرتي) كي يزيد في التعمية والتضليل.
لكن الناحية الأخرى تهمنا أكثر بكثير من الناحية العسكرية، إذ يجب أن نقول إن الانتصار الذي حققه اليهود في سيناء، لم تتهيأ شروطه في إسرائيل فحسب ولكن في البلدان العربية، إذ استطاع الاستعمار حتى تنويم الرادار في صبيحة ٥ حزيران (يونيو) الأخير، ولا نذكر هذا التفصيل إلا لمجرد التوضيح.
أما الحقيقة فهي تخص فلسفتنا الثورية بأجمعها. فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر. وفي هذا الصدد نذكر قول ماركس «يجب دائما أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا».
إن الشعب الجزائري قام، بدون شك بثورة مجيدة، ولكن هذا لا يعني أنها خالية من الأخطاء في اطرادها الثوري.
ولست أشير هنا إلى الخطأ البريء الخفيف الذي يتولى الوقت نفسه تصحيحه في الاطراد الثوري، بل أشير إلى الخطأ العضوي سواء أفرزه المجتمع، أو حقن به من الخارج حتى صار جزءا من كيانه.
1 / 18
فالنوع الأول من الخطأ قد يهم من يهتم بالتاريخ أكثر من سواه، بينما قد يكون له أيضا أثر سيئ في وطن ثوري، يتعرض لمثل الأخطاء فيرتكس إلى عهد الأثرة والمحسوبية والأنانية، عندما نرى مثلا في هذه القرية الجميلة من الجنوب الجزائري، هذا الرجل الذي كان من أركان جمعية العلماء يستولي على قصر، كان يسكنه أحد ولاة العهد البائد ويؤجر مسكنه. فنحن لا نرى في مثل هذا التصرف ما يدل على قلة تعفف فحسب، بل يدل أيضا على هبوط في الروح الثوري، إذن هذا العالم لم يتاجر فقط بملكه بل تاجر بالقيم الثورية.
وإذا كان أحد قادة الحركة النقابية يقترض بعض الملايين من الفرنكات القديمة من شركة بترول، ويبني بها فيلا فخمة لا ليسكنها ولكن ليؤجرها لسفارة أجنبية، فإنني لا أرى في هذا التصرف ما يمت إلى (الخط الثوري) ولا إلى (المطالب النقابية) بصلة.
ولكن يا آلهة نيتشه المتألمة الخجلة!! صفحا عن هذه الأخطاء الطفيفة. إذ هنالك الأخطاء العضوية التي لا يصلحها الزمن بل ينبغي أن تمحوها الثورة.
والثورة التي تريد الوصول إلى هدفها يجب أن تدفع هذا الثمن، وبهذا الثمن وحده تستطيع ذلك.
***
1 / 19
الأخلاق والثورة
عن (الثورة الإفريقية) عدد ٢٦٤ - أسبوع ٧ إلى ١٣ آذار (مارس) ١٩٦٨م.
لعل عنوانا كـ (السياسة والأخلاق)، يكون في نظر بعض الناس أكثر انطباقا على محتوى هذا المقال، ولكن حتى على هذا الفرض فقد استعملته في مقال آخر (١).
ومهما يكن من أمر، فكثيرا ما يتهم (كاسترو) بسبب تشدده في الحفاظ على المبدأ الأخلاقي، بأنه يرتجل: يتهمه بذلك طرف من الصحافة اليمينية وأحيانا جناح من الصحافة اليسارية.
فتراه أحيانا في سياسته يقلب رأسا على عقب ما تعارف عليه الناس من مقاييس وتقاليد ثورية، وأحيانا أخرى نراه يلقي في سلة المهملات ما توارثه الناس من أفكار هؤلاء وأولئك، إلقاء قد يلتبس معه سلوكه فعلا على الذين يرونه يرتجل، أو ينفر من هذا السلوك رجال الاقتصاد والتخطيط في الغرب أو في الكتلة الشرقية على حد سواء.
وكأنه هو الآخر ينفر من هؤلاء وخاصة التشيكيين والسوفييت الذين نراه يعزو إليهم فشل بعض المشاريع التي لم تعط نتائج فعلية في كوبا.
_________
(١) انظر [ص:٧٣] من هذا الكتاب.
1 / 20
إن (كاسترو) لا يجد بعد في تصرفه، ذلك الجهاز الثقيل من إحصائيات وآلات إلكترونية وأصحاب اختصاص، ذلك الجهاز الذي يجعل الإنتاج المتسلسل عملية لا ثغرة فيها ولا خلل كما هو الأمر في البلاد المصنعة.
ولكن وطنا لم يزل في طور التكوين، لا يمكنه أن يمتع نفسه بهذا الحشد من الأرقام، وبهذا الترف من الآلات الإلكترونية، ليبلغ منذ اللحظة الأولى الذروة في ضبط عملية الإنتاج، والدقة التي لا تترك ذريعة فيها.
إن الإتحاد السوفييتي نفسه مر بهذه المرحلة، فقد كانت، أثناء مخططه الأول بين عامي ١٩٢٨ - ١٩٣٢م نسبة (٤٠% إن لم نقل ٥٠%) من إنتاجه من الحديد أو من الخزف، تلقى في أكداس المهملات أو تعود إلى أفران التذويب.
ولم يكن الإتحاد السوفييتي يخشى أن يتعلم الصناعة بهذا الثمن، كما كانت روسيا في عهد بطرس الأكبر تتعلم فن البحرية والحرب العصرية. حتى كان النبلاء فيها من طبقة (البويا) يقصرون لحاهم على الطريقة الأوربية.
إذن فليس على (كوبا) أن تخجل من تدريبها، وإذا اتهم (كاسترو) بأنه يرتجل فليكن؛ غير أننا نعترف بأنه يرتجل بطريقة موفقة عندما نرى، منذ زمن قريب، كيف تخرج من يده قرية مجهزة بمدرسة ومصحة في مكان (مدينة صفائح) توافرا لها منذ شهر ونصف الشهر فقط.
فإذا كانت الحالة هذه بكوبا تثير التعجب والاستغراب من طرف بعض الملاحظين، فإنما يعود ذلك إلى أن القرن العشرين تعود أن يستقطب الأفكار حول قطبين هما: الرأسمالية والماركسية، ولا يحتمل احتمالا ثالثا لهما يبدو معه أن لا مناص من أن تستوحى الأفكار من هذا القطب أو من ذاك القطب، في الميدان الاقتصادي أو التربوي أو السياسي دون تفكير خارجهما.
1 / 21
لكن (كاسترو) تحرر في تفكيره من كل تبعية لموسكو أو بكين، على الرغم من أنه ينتمي إلى مدرسة (ماركس) فبدأ يبتكر أو يرتجل كما يقولون.
وليس خروج (كاسترو) عن الماركسية المألوفة تنكرا للفكرة نفسها أو حبا للظهور بالأصالة، إنما هو تمسك رجل دولة بما يراه ضروريا من حرية في الفكر وفي التصرف، للقيام بوظيفته طبقا لما تقتضيه تجربة بلاده.
ونحن ما نزال على مقربة من بداية هذه التجربة، قربا لا نستطيع معه الحكم منذ الآن، فهل ستؤدي إلى انشقاق نظري أم لا؟! وماذا ستكون آثار هذا الانشقاق- إذا حدث- في المجال السياسي بوجه خاص؟!
ولكننا نستطيع منذ الآن ملاحظة فوارق جذرية، إذا ما تذكرنا ما قاله (لينين) وهو يواجه أقسى الصعوبات بعد هدنة (بريست ليتوفسك): «إذا وجب علينا أن نسير إلى النصر زحفا على البطون ..... فليكن».
بينما كاسترو يصرخ طاقة جهده بأن (سياسة الثورة) لا تقوم على الحسابات، فالمصلحة الوطنية وما يمليه أمر الدولة، إنما تقوم على المبدأ الأخلاقي.
فهذا كلام لا نتصوره على لسان رجل مثل (الكردينال دوريشيليو)، ولا على لسان (تاليران)، وإنما نجده في صرخة (دوبان دونمور)، الذي صرخ ذات يوم في مناقشات تدور بمجلس الثورة الفرنسية حول قضية المستعمرات، صرخ قائلا: «فلتمت المستعمرات ولكن لا نسلم في مبدأ من مبادئنا».
إن (كاسترو) ليس عالم أخلاق وإنما رجل دولة يعرف قيمة الأخلاق في السياسة.
لكن التاريخ لن يصدر عليه حكمه طبقا لمبادئ مجردة بل طبقا لنتائجها في الواقع الملموس.
1 / 22