وكما يوافق «رسل» على يقين الخبرات الباطنية المباشرة، يرى كذلك أن السلوكيين قد أصابوا بعض الصواب في اعتمادهم على الملاحظة الخارجية. إن موقف السلوكيين يتلخص فيما يأتي : (1) أكثر الحقائق نصيبا من اليقين هي تلك التي يستطيع مشاهدتها عدد كبير من الناس، أعني أنها هي الحقائق «العامة» المعروضة للجميع، وليست هي بالحقائق «الخاصة» التي يدركها صاحبها وحده بتأمله الباطني؛ فمثل تلك الحقائق الموضوعية هي أساس العلوم الطبيعية. (2) والعلوم الطبيعية قادرة على شرح كل الحقائق المشاهدة التي يمكن ملاحظتها في السلوك البشري، أو بعبارة أخرى يمكن تفسير الإنسان بتلك العلوم وحدها. (3) ليس هنالك ما يبرر الاعتقاد بأن للإنسان جوانب لا يمكن معرفتها بالملاحظة الخارجية، وأنه لا بد لنا من التماس طرق أخرى غير الملاحظة الخارجية إذا أردنا العلم بتلك الجوانب. (4) والتأمل الباطني بصفة خاصة، باعتباره طريقة يمكن بواسطتها ملاحظة ما لا يمكن ملاحظته من الخارج، إنما هو وهم وخرافة لا بد من اقتلاعها من جذورها لكي نصل إلى علم صحيح بالإنسان. (5) ونتيجة لهذا فلا مبرر يدعونا إلى الظن بأن للإنسان جانبا خفيا اسمه «فكر» إذا أردنا بهذه الكلمة شيئا غير السلوك الجسدي الظاهر في شتى ضروبه ومنها الكلام.
ويوافق «رسل» على الثلاثة الأولى من المبادئ الخمسة المذكورة، ويرفض الرابع والخامس منها، ويعتقد أن خطأ السلوكيين راجع إلى عدم إلمامهم التام بما يقوله علم الطبيعة الحديث، ولو قال السلوكيون «إن كل ما يمكن معرفته عن الإنسان تكون معرفته بنفس الطريقة التي نعرف بها حقائق علم الطبيعة» لوافقهم «رسل»؛ لأنه يعتقد أن حقائق الطبيعة - كحقائق النفس - إنما يكون العلم بها في الواقع عن طريق الملاحظة الباطنية، ولو أنه قد يتبادر إلينا للوهلة الأولى أننا في علمنا بالطبيعة نعرف أشياء خارجية؛ ذلك لأنك حين تدرك بحواسك شيئا خارجيا، فسينتهي بك التحليل لعمليتك الإدراكية حتما إلى هذه النتيجة، وهي أن إدراكاتك كلها من بصرية وسمعية ولمسية إلخ، هي في رأسك، فحين تقول: «أرى الشمس» فالأمر في الواقع هو إدراك لشيء حدث في باطن نفسك.
يتتبع «رسل» بعض الظواهر «العقلية»
55
كالصور الذهنية التي ترتسم في عقولنا دون وجود مؤثر في الخارج يطابقها - كما يحدث مثلا حين نتذكر صورة غرفة وما فيها من أثاث، وكما يحدث في أحلام اليقظة وأحلام النوم - وكالخيال والذاكرة، والعاطفة والرغبة والإرادة، يتتبع هذه الظواهر «العقلية» بالتحليل ليبين أن المذهب السلوكي وحده لا يكفي لتفسيرها، أو بعبارة أخرى لا تكفي الملاحظة الخارجية وحدها لإدراك حقائقها، ولا بد إلى جانب ذلك من الملاحظة الباطنية التي يلاحظ بها الإنسان نفسه وما يدور فيها.
ففيما يتعلق بالصور الذهنية، فإن السلوكيين ينكرون قيامها، فيحسن أن نحدد المراد «بالصور الذهنية» في رأي مؤيديها قبل الرد على السلوكيين بشأنها. إننا إذا أقفلنا عيوننا أمكننا أن نستعيد بعض الصور البصرية عن المناظر والوجوه التي مرت بها في تجاربنا الماضية، كذلك نستطيع استعادة أنغام وأصوات سمعناها فيما مضى، كما نستطيع أن نستعيد الصورة اللمسية لفراء ننظر إليه دون أن نلمسه، لكننا نعلم ماذا تكون الخبرة اللمسية لو مررنا عليه بأكفنا ... هذه تجارب في حياتنا لا سبيل إلى إنكارها، لكن موضع الاختلاف في الرأي هو كيف نصف هذه التجارب وأشباهها.
يقول السلوكيون في تفسير الصور الذهنية إنها نتيجة حوادث تحدث في الأعصاب والمخ على نحو ما حدث بالضبط حين أدركنا المؤثرات الخارجية التي تكون هذه الصور الذهنية صورها، ماذا يحدث في شبكية العين مثلا حين تنظر إلى صورة لنابليون فتراها؟ الجواب عن هذا السؤال هو نفسه الجواب عن السؤال الآخر وهو: ماذا يحدث حين أستعيد صورة نابليون التي رأيتها في لحظة ماضية؟ فلو كان الإدراك الحسي عند وقوعه عبارة عن حركة مادية في أجزاء معينة من جسم الإنسان الرائي، فكذلك تكون استثارة الصورة الذهنية في حالة غياب المدرك الحسي؛ هذا تفسير، وتفسير آخر يأخذ به السلوكيون أيضا هو أنك إذ تنظر إلى صورة نابليون - مثلا - تتحرك أعضاء النطق بكلمة نابليون (سواء تم النطق بصوت مسموع، أو اقتصر على نطق داخلي لم يبلغ درجة الصوت المسموع)، وعندئذ يحدث ارتباط عضلي عصبي بين الحركات الجسدية التي تحدث عند رؤية الصورة والحركات الجسدية التي تحدث عند النطق بالكلمة، بحيث يكفي فيما بعد أن أنطق بالكلمة وحدها، فتعود الصورة لعودة مجموعة الحركات الجسدية التي تؤدي إليها.
هذا ما يقوله السلوكيون في تفسير الصور الذهنية، ويراه «رسل» غير كاف للتفسير في كثير من الحالات، وفي ذلك يقول إنه إذا سئل سؤالا عن غرفة مرت عليه في خبرته الماضية، وأراد الإجابة عنه، وجد نفسه مضطرا إلى أن يستعيد صورة الغرفة في ذهنه ليجيب ، كما يحدث تماما لو أنه سئل السؤال نفسه عن غرفة مرئية، ثم نظر إلى أثاث الغرفة ليجيب، ويؤكد «رسل» أنه إذ يستعيد صورة ذهنية لتجربة ماضية، فإن الصورة تأتيه أولا والكلمات المتعلقة بها ثانيا، بل إن هذه الكلمات قد لا تأتي مصاحبة للصورة أبدا، مما يدل على خطأ السلوكيين في ظنهم بأن الأمر كله ارتباط بدني حركي بين مجموعتين من الحركات العضلية العصبية؛ المجموعة التي تكون الكلمات، والمجموعة التي تكون صورة.
وننتقل إلى موضوع الذاكرة؛ فها هنا أيضا يرى «رسل» أن النظرية السلوكية إن أمكن الأخذ بها إلى حد بعيد، فهي وحدها لا تكفي لتعليل هذه الظاهرة تعليلا كاملا، إن السلوكي لا يرى ضرورة لاستعمال كلمة «ذاكرة»؛ لأن الأمر فيها هو نفسه الأمر في «العادات»، فإذا «تذكر» الفأر طريقه في المتاهة نتيجة لخبرته الماضية، فليس في «تذكره» هذا عنصر إضافي يضاف إلى «العادات» الجسدية التي تعودها الفأر، بحيث إذا ما كرر حدوثها كان له السير في الطريق الصواب، ولا فرق بين الفأر وهو يكرر هذه العادات الجسدية المحفوظة وبين الطفل وهو يكرر قوله: «7 × 6 = 42»؛ فهذا التكرار اللفظي - أي العضلي؛ لأن «العادة» هنا تكون في حركات اللسان وعضلات النطق إلخ - هو من قبيل تكرار الفأر لمجموعة الحركات التي تؤدي به إلى التماس طريقه في المتاهة، إذن فما نسميه «ذاكرة» هو عند السلوكي «عادات»، وإذا قلنا ذلك فقد قلنا إنها تتوقف على الحركات الجسدية وحدها بغير داع إلى افتراض حقيقة «عقلية» تستحيل على الملاحظة الخارجية.
ويسأل «رسل»: كيف إذن نستطيع أن نفسر شعورها في حالة التذكر بأن ما نتذكره حادثة «مضت»؟ من أين يأتي هذا الشعور «بالماضي» مع أنه لم يكن ضمن العناصر المدركة حين وقعت الحادثة أول مرة؟ لو كان الأمر في «التذكر» شبيها بتسجيل حوادث صوتية على قرص الحاكي، بحيث إذا ما أدرنا القرص مرة أخرى حدثت الحوادث الصوتية نفسها في المرة الثانية كما حدثت في الأولى، لما وجدنا هذا التباين في الشعور بين الحالتين؛ لأنه لا شك في أننا نشعر إزاء الحادثة عند وقوعها أول مرة أنها حادثة «حاضرة»، ثم نشعر عند «تذكرها» أنها حادثة «ماضية» بدليل أننا نغير في الكلمات التي نستخدمها في الوصف في كل من الحالتين؛ ففي الحالة الأولى نستعمل الفعل المضارع، وفي الحالة الثانية نستعمل الفعل الماضي، إن قرص الحاكي لا يفعل ذلك، فإذا سجل الآن صوتك وأنت تقول لحبيبتك: «إني أحبك»، ثم أدرته بعد أيام لما غير في العبارة بحيث يقول: «إني أحببتك يوم الأربعاء الماضي»، وإذن فهناك في التذكر عنصر «ذاتي»، وليس الأمر كله موضوعيا صرفا يخضع للملاحظة الخارجية وحدها.
Halaman tidak diketahui