1
وإن يكن توسع في معناه، بحيث استباح لنفسه أن يكون صاحب مذهب إيجابي في الطبيعة، وفي الإنسان، مما يتناقض مع ذلك المبدأ بمعناه الدقيق.
ومهما يكن من أمر الاختلاف بين «برتراند رسل» وجماعة «الوضعية المنطقية» التي أنتمي إليها، فلهذا الفيلسوف من الجوانب الرئيسية - في عمله وفي شخصه - ما يقربه من عقلي ومن قلبي معا.
فهو - أولا - يريد ويلح في إرادته أن تكون الفلسفة علمية المنهج؛ بحيث تقلع عما تعودته من ضرب في التأملات التي تطير إلى أجواز السماء على جناحي خيال طامح، لكنه جامح، والمقصود بعلمية المنهج الفلسفي نقطتان رئيسيتان؛ أولاهما: أن يتناول الفيلسوف مشكلة جزئية واحدة، ولتكن هذه المشكلة - مثلا - عبارة واحدة من عبارات الكلام، لينتهي في تحليلها إلى نتيجة إيجابية، يصح أن يأتي بعده سواه، فيبني عليها عمله ونتائجه، وبهذا تصبح الفلسفة - كالعلم - عملا يتعاون عليه المتعاقبون، فيزداد بناؤها طابقا فوق طابق، ولا تعود - كما هي حالها على مر القرون السالفة - عملا فرديا، بمعنى أن يبني كل فيلسوف لنفسه بناءه كاملا شامخا؛ ليأتي من بعده فيقوضه تقويضا ليعيد لنفسه بناء جديدا، وهكذا دواليك، حتى لا ترى فرقا ملموسا من حيث التقدم والترقي بين بناء فلسفي يقيمه فيلسوف القرن العشرين، وبناء فلسفي قديم أقامه يوناني في القرن الخامس قبل الميلاد، بل كثيرا ما يرجح القديم الجديد عظمة وشموخا. إن هذا العمل الفردي إن جاز في الآداب والفنون، فهو لا يجوز في نتاج العقل من فلسفة وعلم، نعم يجوز للشاعر أو الفنان أن يعبر عن ذات نفسه كما يشاء، بغض النظر عن سابقيه، لكن مثل هذا الاستقلال الفردي لا يجوز أبدا في المجال العقلي.
وأما النقطة الثانية التي قصدنا إليها من علمية المنهج في التفكير الفلسفي، فهي الأداة التي نستخدمها في تحليلنا للمشكلة الجزئية التي نختارها، وأداة المعاصرين جميعا ممن يهتمون بالفلسفة التحليلية - وعلى رأسهم «رسل» - هي المنطق الرياضي الذي ينصب على العبارة الموضوعة تحت البحث، فإذا هي أقرب ما تكون إلى مسألة في الجبر أو الحساب، ولو كملت لنا هذه الأداة، لاستطعنا أن نحقق الأمل الذي كان يحلم به ليبنتز، وهو أن نتناول مشكلاتنا من هذه الزاوية الرياضية، بحيث يعود الاختلاف في الرأي أمرا ينحسم بالحساب، لا نقاشا حول ألفاظ غامضة المدلول لا ينتهي إلى نتيجة، ولو امتد خلال القرون.
وثاني الجوانب التي تقرب «رسل» من عقلي ومن قلبي، هو هذا الدفاع الحار الذي ينهض به في سبيل حرية الفرد من كل طغيان: طغيان التقاليد الاجتماعية، وطغيان الحكومات؛ فإني لأوشك أن أرى الصدق كل الصدق في دعوى «رسل» بأن النظم الاجتماعية والسياسية كلها - في أرجاء العالم أجمع، وعلى اختلاف العصور - مؤامرة كبرى يراد بها الحد من حرية الفرد التي كان ينبغي أن تكون هي الأساس وهي المدار لكل نظام في اجتماع أو سياسة. وإن شئت فانظر في أي بلد من بلاد العالم إلى ما يسمونه «التربية» تجدها تسابقا من الهيئات ذوات السلطان للاستيلاء على عقل الناشئ ومشاعره! واستمع إلى رجال «التربية» يسألون: ما الغاية من التربية؟ ثم يجيبون: هي إنتاج «المواطن الصالح»، وصلاحية المواطن هي دائما - كما ينبهنا «رسل» - الموافقة على النظم القائمة، ويستحيل عندهم أن يكون معنى «الصلاحية» هو الثورة على تلك النظم، وإنه لمن عجب - كما يقول فيلسوفنا - «أنه بينما تستهدف الحكومات جميعا إخراج رجال من طراز يؤيد الأنظمة القائمة، ترى أبطالها من رجال الماضي هم على وجه الدقة رجال من نفس الطراز الذي تحاول الحكومات أن تمنع ظهوره في الحاضر ... فالأمم الغربية جميعا تمجد المسيح، مع أنه لو عاش اليوم لكان - يقينا - موضع ريبة من رجال البوليس السري في إنجلترا، ولامتنعت عليه الجنسية الأمريكية على أساس نفوره من حمل السلاح.»
وثالث الجوانب التي تقرب هذا الفيلسوف من نفسي: هو هذه الفرحة الكبيرة التي يفرحها كلما استطاع إقامة البرهان على خطأ اعتقاد كان يظنه الناس بديهية لا تحتمل الشك والجدل؛ انظر مثلا كيف ترن عبارته بالنشوة، وهو يثبت أن الجزء ليس حتما أصغر من الكل الذي يحتويه؛ فالنقط التي في جزء من خط مستقيم مساوية للنقط في الخط كله؛ لأن كلتيهما لانهائية العدد، والأعداد الفردية وحدها مساوية للأعداد كلها من فردية وزوجية معا؛ لأنك لو وضعت سلسلة الأعداد كلها في صف، ثم وضعت الأعداد الفردية وحدها في صف تحته، استطعت أن تجد لكل عدد من السلسلة الأولى عددا يقابله من السلسلة الثانية ... ومثل هذه الفرحة أفرحها كلما تبين لي وجه الخطأ فيما يسلم به الناس تسليما أعمى.
قد يقال - كما قيل في رسل - إن مثل هذه النزعة انقلابية هدامة خطيرة، وإن صاحبها يكون في شخصيته شبيها ب «مفستوفوليس» شيطان «فاوست»، لكنها - في رأيي - ضرورية لتمهيد الطريق نحو تغير الأفكار والأوضاع الاجتماعية التي قد تتحجر، فيظن الناس أن «صلابتها» تلك هي صلابة الصواب، واستحالة الخطأ. إن أصحاب هذه النزعة هم دائما بمثابة الفدائيين الذين يتسللون إلى حصون العدو، فيمهدون الطريق إلى دكها وتخريبها، والفرض هنا - بالطبع - هو أن ما يراد دكه وتخريبه ومحوه، بناء فاسد يستوجب التغيير والإصلاح. •••
أما بعد، فقد لبث برتراند رسل يكتب أكثر من ستين عاما، حاول خلالها أن يجيب عن أسئلة كثيرة، وأن يحل مشكلات شتى، وبديهي ألا يستقر على رأي واحد دائما إزاء نقطة معينة؛ ولذلك يتحتم على من يريد دراسته أن يتتبع أفكاره الرئيسية في تطورها وتغيرها، وألا يأخذ رأيا له في موضوع معين من كتاب معين على أنه الرأي الذي لم يتناوله صاحبه بعد ذلك بالتعديل أو التبديل.
وإنه لمما يلفت النظر أن فيلسوفنا لم يعرفه الناس بأهم إنتاجه؛ فالكتب التي سيخلد بها في تاريخ الفلسفة، مثل «أصول الرياضة» و«أسس الرياضة» و«علمنا بالعالم الخارجي» و«تحليل العقل» و«تحليل المادة»، ليست هي الكتب التي أذاعت اسمه، وأشاعت شهرته، بل الذي فعل ذلك هو ما كتبه في الاجتماع والسياسة والتربية، لكنني حين كتبت هذا الكتاب، حاولت أن أهتم بالمهم من فلسفته، بغض النظر عن مدى ذيوعه بين أوساط القراء، وجعلت تتابع الفصول متمشيا - إلى حد كبير - مع التطور الفكري للفيلسوف، كما يظهر هذا التطور في رواية الفيلسوف عن نفسه، وهي التي تراها في الفصل الأول من هذا الكتاب.
Halaman tidak diketahui