وقد كانت هذه تكون نتيجة سليمة لو صحت مقدماتها، وهي أن الكلمات الكلية «أسماء»، وإذن فلا محيص لنا عن افتراض وجود مسميات لها، لكن ها هنا يأتي «رسل» بتحليله المنطقي لهذه الكلمات ليدل به على أن الكلمة منها ليست اسما، بل هي «وصف»، وقد يوجد الفرد الذي يوصف بذلك الوصف، وقد لا يوجد، أو بعبارة أخرى، كلمة مثل «إنسان» هي في الحقيقة عبارة وصفية بأسرها، وليست العبارات الوصفية بذاتها دليلا على وجود أفراد لها؛ إذ في مستطاعي أن أنسج من الخيال عبارة وصفية لا تنطبق على أي فرد من أفراد العالم الواقع.
قارن بين عبارة تحدثك عن فرد واحد مثل «العقاد مستقيم على ساقين»، وعبارة تحدثك عن اسم كلي مثل: «الإنسان مستقيم على ساقين» تجد أن العبارة الأولى قضية ذرية بسيطة تقابلها واقعة ذرية بسيطة، بحيث إذا أردت التحقق من صدقها كان عليك - وفي مستطاعك - أن تقارن القضية التي هي بمثابة الصورة اللفظية بالواقعة التي هي بمثابة الحقيقة المصورة، كان عليك - وفي مستطاعك - أن تقصد إلى الفرد الواحد الذي يسمونه بالعقاد لترى إن كان حقا يستقيم على ساقين كما تزعم الصورة اللفظية أو لم يكن، فإن كان صدقت القضية وإلا فقد كذبت.
أما إذا أردت التحقق من صدق العبارة الثانية «الإنسان مستقيم على ساقين»، فلن يكون أمامك سبيل إلى ذلك إلا أن تقع على فرد من مجموعة الأفراد الذين ينطوون جميعا تحت كلمة «إنسان»، وإذن فأنت بمثابة من يحلل كلمة «إنسان» إلى صورة كهذه : «س إنسان» و«س مستقيم على ساقين»، أعني أنك بمثابة من يقول إنه لا سبيل إلى تحقيق ما يقال عن «الإنسان» إلا إذا وجدت له أفرادا أولا، ثم بعد ذلك ترى إن كان لهؤلاء الأفراد من الصفات ما هو مزعوم لهم في العبارة الأصلية.
وهذه الصورة الرمزية «س إنسان» التي لا بد فيها من أن يتبدل مجهولها «س» بمعلوم من الأفراد الحقيقيين في دنيا الواقع، قبل أن ننتقل إلى الخطوة الثانية، وهي النظر إلى ذلك الفرد المعلوم الذي سنملأ باسمه مكان الرمز «س» لنرى إن كان ذلك الفرد يتحقق فيه أنه مستقيم على ساقين، أقول إن هذه الصورة الرمزية ليست قضية كاملة، بدليل أنها تفقد شرط القضية، الذي هو إمكان التحقق من صدقها أو كذبها، وبديهي أنك لا تستطيع هذا ما دام موضوع الحديث رمزا مجهولا هو «س»، لا، ليست هذه الصورة الرمزية بقضية كاملة، بل هي ما يسميه «رسل» ب «دالة قضية»،
46
ولما كانت دالة القضية لا يكون لها معنى بذاتها، حتى نستبدل فيها بالرمز المجهول اسما معلوما، تبين الفرق الشاسع بين عبارة تحدثك عن فرد وأخرى تحدثك عن كلمة كلية.
الكلمة الكلية بمثابة عبارة ناقصة، هي وصف ينتظر الفرد المعين الذي يوصف به، وقد لا يكون لمثل هذا الفرد وجود، وعندئذ تظل الكلمة الكلية بغير مدلول، وإذن فالذين يستنتجون من مجرد تحدثنا عن كلمات دالة على أوصاف عامة وجود كائنات تكون بمثابة المسميات لتلك الكلمات، قد أخطئوا لخلطهم بين القضية ودالة القضية، فالجملة المحتوية على كلمة كلية، أي على عبارة وصفية (لأن الكلمة الكلية هي في حقيقتها عبارة وصفية) هي دالة قضية، أعني أنها رمز ناقص، ولا يجوز الحكم عليها بصدق أو بكذب إلا إذا رددناها أولا إلى قضية بأن نملأ مكان الرمز المجهول باسم فرد معلوم، لو قلنا عبارة كهذه مثلا عن «الإنسان»: «الإنسان فان»، وأردنا أن نجعل منها رمزا كاملا في دلالته، تحتم علينا أن نضع مكان الكلمة الكلية «إنسان» اسم علم يدل على فرد معين مثل «العقاد»، وعندئذ فقط يصبح الكلام مما يجوز التحقق من صدقه أو كذبه؛ إذ في مستطاعنا الرجوع إلى عالم الواقع، لنجد فيه فردا اسمه «العقاد» فنلاحظه لنعلم إن كان فانيا حقا كما تزعم لنا العبارة الأصلية، وبهذا نكون قد تخلصنا من كلمة «إنسان»، على حين أننا إذا أبقينا كلمة «إنسان» على حالها، وظللنا نصفها بكذا وكذا، ثم رجعنا إلى عالم الأفراد المحسوسة، ولم نجد بينها هذا «الإنسان» العام الذي ليس فردا بذاته من الأفراد، شطح بنا الوهم إلى افتراض وجود كائن عقلي هو الذي نعنيه بكلمة «إنسان» الكلية، وافتراض أن وجود ذلك الكائن الموهوم يقتضي عالما عقليا يقوم فيه، كما فعل أفلاطون مثلا في نظرية المثل، هكذا نبتر بنصل أوكام مسميات الألفاظ الكلية، إذ لم نعد نرى ضرورة تستلزم افتراض وجود هذه الكائنات.
معرفة الأفراد الجزئية هي معرفة بالاتصال المباشر، ومعرفة الكليات هي معرفة بالوصف، ولا بد لكل معرفة بالوصف أن ترتد إلى معرفة بالاتصال المباشر إذا ما أردنا التثبت من صدق دلالتها، فإن وجدنا أن التركيبة العقلية الوصفية المتمثلة في لفظة كلية لا تنطبق على أفراد جزئية مما يقع في عالم الواقع لم يجز لنا أن نفرض لتلك التركيبات العقلية مدلولات خارجية، وتحتم علينا أن نبقيها هكذا على حالها تركيبات منطقية بغير مدلولات جزئية، فتظل رموزا ناقصة غير ذات معنى كامل، حتى تجد الأفراد الجزئية التي تجعل لها معنى، فإن استحال بحكم التركيبة الوصفية نفسها أن تجد لها أفرادا جزئية مما يمكن الوقوع عليه بالخبرة المباشرة، كانت تلك التركيبة الوصفية كائنا ميتافيزيقيا، ووجب حذفها؛ لأنها يستحيل أن تكون بين مقومات العالم.
من هذه الكائنات الميتافيزيقية الواجب حذفها لاستحالة وقوعها في الخبرة المباشرة، تلك العناصر التي افترض الفلاسفة - بل التي افترض رجل الشارع بإدراكه الفطري - أنها قائمة في الأشياء لتلتف حولها ظواهر تلك الأشياء، وأضرب لذلك مثلا للتوضيح فأقول: هذه منضدة أمامي، أفترض فيها أنها «شيء مادي» على درجة تزيد أو تقل من الثبات والدوام، فهي اليوم ما كانت بالأمس وما ستكون غدا، فماذا يأتيني منها في تيار خبرتي المباشرة؟ كل ما يأتيني منها لمعات متلاحقة من اللون تختلف درجة لمعانها باختلاف الضوء الساقط عليها، وباختلاف وقفتي منها، ودرجات من الصلابة أحسها حين أضغطها بأصابعي، ودرجات من الصوت أسمعها إذا ما نقرتها بيدي أو بغيرها وهكذا، إن سطحها المستطيل لتختلف «استطالته» باختلاف الزاوية التي أنظر إليه منها، وإذن فالذي يأتيني منها في خبرتي المباشرة هي هذه المعطيات الحسية التي تجيء متتابعة في مجموعات يختلف بعضها عن بعض كثيرا أو قليلا، لكني إذا أردت التحدث عنها، فأردت مثلا أن أقول إن الدواة قائمة عليها، تراني مسوقا بفطرتي إلى جعلها «شيئا» متماسكا صلبا ثابتا أطلق عليه كلمة واحدة لتكون له اسما، ثم أشير إلى هذا الاسم في حديثي، فأقول - مثلا - الدواة على المنضدة، كأنما «المنضدة» وكأنما «الدواة» شيئان ثابتان، وكأنهما ليستا مجرد «تركيبتين» من مجموعة معطيات حسية جاءتني عن طريق هذه الحاسة أو تلك.
ولما وجد الناس، بل لما وجد الفلاسفة، أنفسهم يتحدثون عن «الأشياء» على هذا النحو، بحيث يجعلون «للشيء» كيانا واحدا، ثم لما أدركوا تغير ظواهر الشيء بتغير وجهات النظر إليه، زعموا أن «للشيء» عنصرا أو جوهرا ثابتا تتعلق به تلك الظواهر المتغيرة، وهذا العنصر أو هذا الجوهر الثابت هو الذي أعنيه حين أستخدم كلمة واحدة أسميه بها، وإذن فليس معنى كلمة «منضدة» عندهم هو هذه اللمعات اللونية، وهذه اللمسات بالأصابع، بل هو ذلك المركز الخفي الذي لا تدركه الحواس، ومع ذلك يرون أنفسهم مضطرين إلى افتراض وجوده ليستقيم لكلامهم معناه، وليستقيم للأشياء وجودها وثباتها ودوامها.
Halaman tidak diketahui