من أهم الأبحاث التي نشرها «رسل»، فبسط فيها جانبا هاما من جوانب فلسفته، بحث نشره عام 1918م، وأطلق عليه اسم «فلسفة الذرية المنطقية»،
38
حيث شرح وجهة نظره في التشابه الشديد القائم بين تركيب اللغة وتركيب العالم، وهو إنما أطلق هذا الاسم ليعبر به عن خلاصة رأيه، فهي فلسفة «ذرية»؛ لأنه يذهب إلى أن العالم قوامه كثرة من أشياء، معارضا بذلك الفلسفة المثالية التي تجعل من الكون كلا واحدا متسق الأجزاء، وهذه الذرية «منطقية»؛ لأن الأجزاء التي ينتهي إليها بعد التحليل هي ذرات عقلية لا طبيعية مادية بالمعنى السائر المفهوم من هاتين اللفظتين.
حلل اللغة إلى وحداتها الأولية، تجد وحدتها هي «القضية» أي الجملة التي تدل على «واقعة» من وقائع العالم، وما «القضية» إلا مركب رمزي قوامه رموز هي الألفاظ، والعلامة المميزة للقضية هي إمكان وصفها بالصدق أو بالكذب، فالمركب الرمزي، أي اللفظي، لا يكون وحدة لغوية إذا استحال علينا بحكم طبيعته أن نقول عنه إنه صادق أو كاذب، فإذا كان لديك قضية كهذه: «هذه البقرة صفراء»، ثم إذا كان في عالم الأشياء بقرة صفراء هي التي تشير إليها تلك القضية، كان لديك جانبان لو حللتهما ألفيت بينهما شبها كالذي يكون بين شيء مصور وصورته، وماذا نعني «بالتشابه»؟ نعني به أن يكون بين الشبيهين «علاقة واحد بواحد» أي إن لكل جزء من أجزاء الشبيه جزءا يقابله في شبيهه، فإذا كان الأمر كذلك، ثم إذا كانت اللغة مركبة من أجزاء، وليست هي بالكائن الواحد البسيط، كان عالم الواقع كذلك مركبا من أجزاء، وليس هو بالكائن الواحد البسيط.
ويسمي «رسل» القضية البسيطة التي لا يمكن تحليلها إلى ما هو أبسط منها، بالقضية الذرية،
39
مثل قولي وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب الذي أمامي الآن: «هذه بقعة صفراء»، فإن تركب من هذه القضايا البسيطة اثنان أو أكثر لتتكون منها جملة، كان لنا بذلك قضية مركبة،
39
مثل قولي وأنا أنظر إلى غلاف الكتاب المذكور: «هذه بقعة صفراء مستطيلة»؛ لأن هذه الجملة تنحل إلى جزأين بسيطين هما: «هذه بقعة صفراء» و«هذه بقعة مستطيلة».
وليست القضايا الذرية (البسيطة) كلها من نوع واحد، بل هي تتدرج في تسلسل متصاعد بالنسبة إلى عدد حدودها التي ترتبط بنوع العلاقة المذكورة فيها، ويقابل هذا التسلسل المتصاعد في القضايا الذرية تسلسل متصاعد شبيه به في وقائع العالم؛ فأول الدرجات في تسلسل القضايا الذرية (البسيطة) قضية قوامها شيء وصفته، كقولنا: «هذه البقعة صفراء» فها هنا تجد «حدا» واحدا هو «هذه البقعة» والصفة المنسوبة إليه وهي اللون الأصفر، ويمكن تسمية هذه القضية بالقضية «الواحدية»، ويتلوها في سلم الصعود قضية «ثنائية» يكون قوامها حدين بينهما علاقة تربطهما، كقولي «القلم على يمين الدواة»، ويتلو هذه قضية «ثلاثية» يكون قوامها ثلاثة حدود بينها جميعا علاقة واحدة تربطها في مجموعة واحدة، مثل «الكتاب بين الدواة والقلم»، ويتلو هذه قضية «رباعية»، فقضية «خماسية» وهكذا. وأحب قبل أن أترك هذه النقطة أن أنبه القارئ إلى حقيقة هامة، وهي أن أرسطو في «منطقه» حين حلل القضايا قد فاتته هذه الفوارق، وجعل القضايا كلها من النوع الأول، الذي تكون القضية فيه مؤلفة من حد واحد وصفته، أو بالاصطلاح المنطقي مؤلفة من موضوع ومحمول ... وكما يكون هذا التسلسل في القضايا، يكون كذلك في وقائع العالم الخارجي، فهكذا العالم مؤلف من وقائع كثيرة بسيطة، تختلف فيما بينها باختلاف عدد «الحدود»، أو قل عدد «الأشياء» التي ترتبط بعلاقة ما في مجموعة واحدة.
Halaman tidak diketahui